30 يوليو 2011

قراءة في شريط: أهل العزم للإعلاميّ طارق الحايك، بقلم وهيبة قويّة


مقدّمة:
~~~~~
استوقف العمل لحظة من لحظات التحدّي البشريّ... وقد اخترقت هذه اللّحظة مشاعرنا ونفذت إلى أعماق الإنسان فينا...
وقد اخترقتني وذكّرتني بصديقة مكفوفة البصر درست معي في الجامعة، كما أعادت إليّ اجتهاد طفلة فاقدة السّمع والنّطق أصبحت اليوم مدرّسة في مدرسة للمعوقين... كانت صديقتي الصّغيرة، الّتي احترمت عزمها دائما لأنّها علّمتني كيف يتحدّى الإنسان العراقيل.
وكم حاولتْ أن تعلّمني لغتها، وإن لم أتعلّمها، فقد وجدت معها أسلوب تواصل، ما زال يضحكنا كلّما التقينا.

صورة العنوان على شريط أهل العزم

سجّلتُ ما استطاعت حواسّي أن تنطق به لفظا عندما شاهدت الفيديو، واللّغة قد قصرت عن ذكر الكثير من الانفعالات ولم تدرك التّعابير المناسبة الّتي تترجم بها التّفاعل الحقيقيّ بعضه فما بالك بكلّه.


قراءة الشّريط: 


~~~~~~~
جينيريك البداية:
***
يطالعنا شفق تشوبه حمرة مذهّبة تسقط ظلالها على مياه بحر ممتدّ تعانقه الألوان والأشكال الملقاة على سطحه الهادئ... فتستميلنا الصّورة بجمالها... ولماّ نميل إليها نريد ملء عيوننا بدفء ألوانها، تشدّ أسماعنا موسيقى أهدأ من مياه البحر أنغامها، منسابة انسياب مياهه عندما تلاطفها نسمات صيفيّة، وكأنّها تريد أن تأخذنا معها إلى حلم جميل نستعذب فيه المشهد بأنظارنا فنغرقها ألوانا... ونستعذب فيها الموسيقى بأسماعنا فنطرب ونملأ الآذان ألحانا...

اللّقطة الأخيرة من الجينيريك، إخراج طارق الحايك

ولكن، في غمرةٍ من الاستكانة الّتي بعثتها الأصوات، وفي هدأة النّفوس مع الألوان في رحلتها مع الشّمس منذ شروقها إلى غروبها، يصطخب كيان الإنسان في غياب اللّون عن العيون وفي صمت الأصوات من حوله... ونستطلع ما وراء العزم، بعزيمة الإنسانيّة الّتي تُشبعنا بصخب المشاعر النّبيلة منذ المعطى الأوّل في الشّريط...
في تقابل الصّورة والموسيقى مع بداية الشّريط، نجد تدفّق المعنى الإنسانيّ كما نجد تقابل الصّوت بالصّمت وتقابل الألوان بالعتمة واحتجاب كلّ منهما عن كيان إنسانيّ شبيه الظاهر بنا عميق في ظهوره علينا... ويختفي ما ببواطننا من الكلام لنصمت بكلّ خشوع الصّمت ونلوّن مشاعرنا بألوان الذّات وفي غياب الألوان...
هذا شكل بداية العمل... قراءة في ظاهر الشّريط تقدّم صورة متناغمة مع فوضى الحواسّ وانقلابها عند كائن مفرد، وتحدث فوضى في الحواسّ المتناغمة عند كلّ الكائنات.

محتوى الشّريط : في معنى أن نتكلّم عن لغة الصّمت

*******
يد الزّوجة تقول كلامها في يد الزّوج... لغة الأصابع

ينفتح الشّريط بمشهد من حياة خاصّة... خاصّة جدّا.. رجل يعود إلى بيته... صورة متكرّرة يعرفها الجميع، ولكن... في نفس اللّحظة الّتي نلمس فيها ألفة المشهد في حياتنا بلون من الحياة العادي، نجد الرجل غير مدرك للصّورة وما إن يلامس كتف زوجته حتّى يفاجئنا كلامٌ صمتٌ... الزّوجة ترسم على كفّ زوجها الكلام الّذي لا يسمعه... إعاقة مركّبة. سنجد تفسير أسبابها في الشّريط. ولكن لم تعد هذه المعلومات مهمّة...

الرفيقة تقرأ الكتاب على مسامع يد رفيقها بأصابعها:
لغة اللّمس

سنجد أنفسنا لا نتابع الإعاقة من حيث أسبابها وإنّما باعتبار أنّها ترصد الحركة الإنسانيّة النّبيلة وتوقفها لنتأمّلها. ونسأل: كيف يسمع بكفّه؟ وكيف يرى بغير البصر؟ وكيف يعيش وسط أهله؟... أسئلة تعصف بالأفكار بكلّ سرعة... تجوب العقل والأحاسيس وتهزّ الكيان وتقعده في وقت قياسيّ... هكذا يتحوّل الشّريط من حالة إنسانيّة "غريبة" إلى حركة إنسانيّة سامية فريدة.

نبتعد عن الزّوجة فنجد الأبناء، في مشهد اختزل عاطفة الأبوّة في لحظات، واحتشدت فيه المشاعر حتّى أنّي أشكّ أنّه يمكن أن ننساها.

انظروا إلى البنت الصّغرى كيف تحدّثه ويحدّثها... لحظات حميميّة يقف لها العالم تمجدا وتخليدا في عصر بدأ يفقد القدرة على التّواصل مع أسوياء السّمع والبصر، وغامت فيه أساليب الخطاب بين مختلف فئات مجتمعهواستمعوا إليه يخاطب ابنته الكبرى بلوح خشبيّ بسيط شكله ناجع في تبليغ لغة الكلام المتعطّلة في السّمع.


بصر المشاعر تجاه الأبناء حادّ...

وها هو وحده يسير بيسر بين الغرف وينتقل في بيته دون عناء ودون إعانة من مبصر.


مفردات البيت تكسب الثّقة في النّفس


الإعاقة حاصلة في البصر قبل السّمع وعلاج السّمع ممكن، ولكن ما بين الإعاقة والعلاج زمن لا بدّ أن يحياه كريما فكانت حياته حياة الكرام بل العظام.
اعتمد على نفسه في كلّ شيء، وخلق لحياته محرّكات تيسير لخطوه وعلاقته مع أطفاله وزوجته والبائع في متجره... قد لا نجد في ما عرفناه عن فاقدي البصر جديدا. خاصّة لمن عرف أشخاصا فاقدي البصر ورأى فيهم من القدرة على التعامل مع الفضاء والأشخاص من حولهم.
هذا صحيح، لا جديد، والأمثلة كثيرة. فهذا "المعرّي"، وهذا "بشّاربن برد" وذاك "طه حسين"... بل إنّك لتطالع أسماء كثيرة من هؤلاء المكفوفين أمثال "السيّد مكّاوي"، و"أندريا بوتشيلّلي"، و"لويس برايل"، و"راي تشارلز"، و"ستيفي ووندر"، والقائمة تطول... وفي حياتنا الخاصّة لا بدّ أنّنا عرفنا نموذجا أو أكثر... عرفنا أيضا أنّهم يعوّضون فقدان البصر بعصا بيضاء تدلّ عليهم. واللّافت أنّهم يتمكّنون من تطوير حاسّة السّمع لديهم فينسّقون العالم من حولهم بحسب هذا الإدراك الجديد وحسن توظيف حاسّة السّمع.
وأين هذا المكفوف من السّمع؟ فقد حرم السّمع أيضا.
رأيت فيه "هيلين كيلر" ثانية، وقد كانت مثل صاحبنا مزدوجة الإعاقة ولكنّها صارت قدوة ومثالا للإرادة والعزيمة والإصرار والتّحدّي... هي إحدى رموز الإرادة الإنسانية، فقد كانت فاقدة السمع والبصر، واستطاعت أن تتغلّب على إعاقتها حتّى لقّبت بالمعجزة الإنسانية. إذ صارت أديبة ومحاضرة في وقتها (مواليد 27 يونيو 1880م/ يونيو 1968م). بل قد تجاوزت حتّى الأصحّاء إذْ درست النّحو وآداب اللّغة الإنجليزية، كما درست اللّغة الألمانيّة والفرنسيّة واللاّتينية واليونانيّة. وحصلت على شهادة الدكتوراه في العلوم والدكتوراه في الفلسفة. ومارست النّشاط السّياسيّ فقامت في الثلاثينات بجولات متكرّرة في مختلف أرجاء العالم في رحلة دعائية لصالح المعوقين للحديث عنهم وجمع الأموال اللاّزمة لمساعدتهم، كما عملت على إنشاء كليّة لتعليم المعوقين وتأهيلهم، وراحت الدّرجات الفخريّة والأوسمة تتدفّق عليها من مختلف البلدان.

القراءة بطريقة برايل

ذاك نموذج غربيّ في زمن مضى، وهذا  نموذج عربيّ في زمن الحاضر، نموذج يتحدّى كلّ ما فيه وما حوله من معوّقات ليكون متميّزا... وها هو يتميّز.
فدراسته مستمرّة وأحلامه قائمة الذّات تصطبغ بألوان الورود وتتغنّى بالألحان الشجيّة لتقهر الصّمت وجفاء الألوان في عزم وفي تحدّ كبيرين... تنضاف إليها ألوان المستقبل الّذي تريده ابنته... قد غرس بذرة الأمل في قلوب من حوله... وياله من أمل.


مع ابنته في حديقة: حين تصير الطّفولة ناقلا للأصوات والألوان

صورة جميلة ينتهي بها الشّريط: التّواصل الرّائع بين الأجيال... هو الدّرس الّذي لا نقدر أن نتغافل عنه. فمنذ بداية الشّريط ونحن في تعلّم منهج التّواصل السّليم... مع الذّات، فنجدها في توافق جميل مع ذاتها... ومع الآخر، تواصل عجيب فيه يتعلّم السويّ لغة المعوق ويتبادل أطراف الحوار صامتا سامعا في ذات الوقت... ومتفاعلا مع المشاعر النّبيلة. وها نحن نتعلّم "بيداغوجيا التّواصل" بمثال حيّ. بل يعلّمنا الشّريط أن لا نحبس هذه المشاعر الّتي ننسى أن نظهرها في زحمة الحياة.
كيف نميّز تناسق العالم من حولنا عندما تحدث الفوضى؟ يكاد جمال نبل اللّحظة الإنسانيّة أن يأخذنا إلى عالم سحريّ يمكننا أن نجد فيه كلّ الألوان والألحان... ونجد فيه أنّ الحواسّ ليست هي مدخل الإبداع ومنبع العزم، الوحيدة، وإنّما تلك الرّوح الخفيّة فينا هي الّتي تنظّم الحواسّ وتوزّع وظائفها، فنسمع بأكفّنا ونرى بأناملنا ونتكلّم بالصّمت...

الصّمت الخلاّق بين الأب وابنته

جينيريك نهاية الشّريط: 


******
موسيقى الختام فيها شجن أليم، ولولا تسارع النّغم في آخر الشّريط لقلت إنّ مخرج الشّريط يضع نقطة نهاية في غير موضعها...
تسارع النّغم، وهو نغم الأمل الّذي يعلّل النّفوس بأنّ بطلنا له في الدّنيا أمل قد يتحقّق... وعودة الألوان الأولى تلميح بأنّ السّمع قد يعود وأنّ البصر قد يتسلّل إلى العيون الّتي جفتها الأضواء والألوان.
يا لهذه الإعاقة الّتي نجدها في كثير من الأسوياء...

صورة من جينيريك الختام


كلمة ختام:


~~~~~ 
ما يحضرني الآن في مثل هؤلاء الأصحّاء العاجزين هو قول بشّار بن برد:

         أعمى يقود بصيرا لا أبا لَكُمُ  ***  قد ضلّ من كانت العميانُ تهديه

وأرجو أن تقودنا البصائر البصيرة إلى ما فيه الخير.


كلمة شكـــر وتقدير:
~~~~~~~~~~~
شكرا لصاحب الشّريط ومخرجه،  الصّحفي والإعلاميّ طارق الحايك من الأردن.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

شريط أهل العـــزم:
~~~~~~~~~~

شريط وثائقيّ، وهو مشروع تخرّج في قسم الإذاعة والتلفزيون بجامعة اليرموك يروي حكاية رجل يعاني من إعاقة مزدوجة في السّمع والبصر ولديه من العزيمة والموهبة ما لا يملكه كثير ممّن يتمتّعون بسلامة حواسّهم كاملة ولديه عائلة يعيش معها بسعادة لا تتوفّر للكثيرين؛؛؛ / طارق الحايك
سيناريو وإخراج طارق الحايك (طارق الحايك)

وهذا رابط الشّريط




26 يوليو 2011

غياب



وذات الغياب إلينا يعود ~ ليسكن نبض مسير خطانا

ويعبر شوك الهوى والحدود ~ ويغتال فينا زمان صفانا

يردّد لحن الغياب خلود ~ ويتلو تراتيله برضانا

 ألا أيّها اللّحن إنّا سجود  ~ تسابيحنا فجر حلم جفانا  

ولسنا نحبّ الورى والوجود ~ وهذا الغياب نديمٌ سقانا



14 يوليو 2011

فلنكن نحن



لا نعرف أحيانا كيف نكون نحن  ونبحث عن أنفسنا 

في أشكال الآخرين فلا نبلغ مظهرهم ولا جوهرهم ونظلّ 

فاقدين لهويّتنا.

عندما نعلم أنّ مرايانا هي ذواتنا وأصالتنا ونقاء فطرتنا 


نبلغ وعينا بذاتنا ونتحرّر من الآخر فنكون نحن.
 
فلنكن نحن فقط لا غيرنا.

13 يوليو 2011

نور الفجر


نور الفجر كان رفيقي دائما، ولذلك كنت أُمضي اللّيل ساهرة في انتظار ولادة النّور وانبعاثه من تحت جناح اللّيل الأسود،فأراقبه وهو يتسلّل شيئا فشيئا فتتلوّن الموجودات بألوانه وينطلق صوت العصافير شاديا يتغنّي ببداية يوم جديد. ويعزف الكون أجمل الموسيقى، ويتسرّب الفرح إلى روحي... فأغمض عينيّ في هدوء وأتنفّس ملء رئتيّ... وأنام.
أنام مطمئنّة أنّ الكوابيس قد ابتعدت مع ظلام اللّيل.


في البداية كان اللّيل يخيفني، يأتيني بالكوابيس... كنت أفزع، لِمَ هذه الصّور الغريبة؟ لِمَ هذا الخوف؟...
كنت صغيرة جدّا عندما رأيت أوّل كوابيسي. ظلّ يلاحقني... سنوات طويلة...وقرّرت أن أهزم الخوف داخلي، وانتظرت الكابوس... وعوض أن أفرّ منه وأصرخ وأفتح عينيّ، وقفت أمام هذا الخوف ومنذ ذلك الحين صار هذا الخوف صديقي، وعرفت أنّه طيّب ولكن بشاعة ملامحه تنفّر النّاس منه. منذ تلك اللّيلة تعلّمت أن لا أخاف من الكوابيس.
وما إن تغلّبت على الخوف حتّى وجدت نفسي أسيرة سحر اللّيل... سواده أجمل البُسُطِ، أشعر به دافئا في ليالي البرد الطويلة،مشبعا بالنّسائم الرّائعة في ليالي الصّيف الحارّة، نسائم حرّة تحمل عبق الورود وشذى الرّياحين. ولمّا تنتثر فيه النّجوم  أتخيّلها عقد ألماس في جيد حسناء تناثرت حبّاته لتؤانسني بنورها... وأحينا أشعر أنّها تلمع لأجلي... وحدي، فأراقبها بعيون طفلة تعلّمت الأنانيّة لحماية ما تملك، فأحرس النجوم وأروي لها الحكايات، وأحبّها أكثر وأجمع أشتات أفكاري لأرسم لها صورة جميلة. لم أبرع يوما في الرّسوم، تتفوّق السّماء بسحر اللّيل، والنّجوم بأنوارها على كلّ وصف تلمسه مشاعري، وكلّ معنى يصل إلى إدراكي، وتنفلت من كلّ رسم أتخيّله بخيالي المجنون الواسع...
اللّيل أكبر من مشاعري ومن خيالي... لذلك عشقت الحياة في أحضانه... وفي أحضانه تهت هياما، وتاهت روحي حيرى، ولكن ما إن وجدت الأمان حتّى فقدته ... و عاودني الخوف، وعاودتني الكوابيس. وعدت ثانية أنتظر الفجر ونوره.
الخوف صار مختلفا، ورغم أنّه صديقي، فإنّه تغيّر...


 عرفت أنّه أصبح يغار من اللّيل، أحببت اللّيل أكثر من الخوف، لذلك يعاقبني. وعرفت أيضا أنّه متيّم بي، ولن يتركني حتّى وإن رفضت... ولأجل ذلك خضعت له، وابتعدت عن مقاومته... أحيانا يداعبني بكلّ العشق الّذي فيه لي، فأشعر بلذّة تسري في داخلي فأستسلم لها، وأجد لها سحرا... وأحيانا يهزّني بعنف ويروّعني، ولا أدري ما أفعله... فأعود إلى الاستكانة... ما خبرته من الخوف هو أن أأتمر بأمره وأكون له حتّى وإن لم أعد أرغب في صداقته القديمة... عشقه لي أفقده طيبته.. أو هكذا يبدو لي. وإن عاد طيّبا فسأسكن في قلبه وأواجه نفسي.
ليته يعود إلى طيبته.
وهيبة قويّة

8 يوليو 2011

نقوش على صفحة الشّاطئ


 غاصت أقدامها على الرّمل تخطّ مسارا عشوائيّا. واقتربت من الشاطئ ووقفت عند الموج. وبحماس طبعت صورة أقدامها على الرّمل في حركة صبيانيّة. ونظرت إلى الأثر. تأتيه الموجة تلو الموجة فيـمّحي ويبتلع الماءُ الرّسم ويغوص في لجّ البحر أو يذهب زبدا على صفحة الموج الثّائر.
ظلّت تفكّر في الرّمل، إنّه عميق، يبتلع كلّ الحكايات الّتي ترسمها عليه ويحتفظ بها بعيدا عن عيون المتطفّلين.
"يا لك من رمل! ليتني أُغرِقُ فيك ما فيّ من الألم وتُخفيه بعيدا."
أليس هو الرّمل الّذي يحمل خطى أقدامها وثقل جسدها على حباته الناعمة، وهي لا تملك القوّة لتحمل ثقله على رقّة ملمسه؟
أليس هو نفسه الّذي يُصنع منه الزجاج فيُكسَر، وتُبنَى به البيوت فتشتدّ وتقوى وتحمي ساكنها؟
أليس هو نفس الرمل الّذي ينساب كالماء من بين أصابعها فلا تمسكه وهو الّذي تبني به على الشواطئ قصور الأماني وقلاع الطفولة الحالمة؟
نعم، هو الرّمل، ترسم عليه أمانيها وتعانقه موجة حيرى فتمحو أثرها ورسمها ولكنّها تجدها عالقة بقلبها تطاردها في أحلام اليقظة.
هو مثل مشاعرها. تعرفها ولا تصفها، تفهمها ولا تستطيع إبلاغها، تستعذبها وتتعذّب بحملها. رقيقة، قاسية، حالمة، جافية.
هو الرمل، مرآة صقيلة ترسم عليها ملامح قلبها التي تريدها والتي تستطيعها فيضمّها الماء ويطهّرها ويغرق الأحزان المرسومة عليه فتضحك. لا شيء يبقى إلاّ ما كان له أثر عميق في نفسها، جراح وأفراح. ويبقى قلبها طاهرا نقيّا، هذا ما تعلّمته. فليأخذ الماء ما يريد وليطهّر قلبها، فكلّ أثر في نفسها عميق.
الماء! نعم هو الماء الّذي حمل رسم القلب لا الرمل. فلتجرّب الماء، إنّه أعمق من الرّمل. سيحمل كلّ الآلام إلى أعماقه. إنّه على الشّاطئ يتغلّب على الرّمل وما إن يوشوشه بموجه حتّى ينقاد له ويغرق فيه. حسمت أمرها، ورسمت قلبها على صفحة الماء فاهتزّ الماء وتبعثر وتلاطمت الأمواج. وحمل الماء كلّ ما في القلب وأغرقه. وعاد الموج من أعماق لجّته يصرخ على جسد الرمل بثورته ويحفر الذّاكرة.
وألقى الموج بعد ذلك رسما سقط على الحبات الناعمة، وحفر الصورة نفسها الّتي رسمتها على الماء. ثمّ تقدّم الموج يستلّ الصّورة من الرّمل حتّى أذابها وهي ذاهلة. تنظر إلى الماء تارة، وإلى الرمل تارة أخرى فتجد كلا الصفحتين صافيتين لا تحملان أثرا لخدش فيهما. رغم ذلك استقرّ رأيها أنّ صفحة الماء أفضل لتطهّر سماء قلبها من غيوم تعكّر صفوها.
كم يوجد حولها من الجمال تغمض عنه أحيانا عينيها ثمّ ها هي تراه جليّا ساحرا في لحظة تأمّل تصفو فيها النّفس لتدرك المدى الأسمى لكلّ الوجود. فقط عليها أن تغمض عينيها وتطهّر نفسها من أدران الحياة تكتبها حكاية على صفحة الموج الثّائر أو رمل الحكاية.


نُشِرَ النّصّ في مجلّة عود الندّ العدد 61 وهذا الرابط الأصليّ للنصّ.



7 يوليو 2011

كبُرتُ أمّي...




تتقدّم بها سنوات العمر وتتقدّم بي ولكنّي لا أكبر،وإنّما يكبر ما بالقلب من الحبّ لها.

آه! كم أحتاج أن أكبر بين يديكِ حتّى يتّسع صدري لكلّ ما فيه من الحبّ لك أمّي! كم أشعر بقصر قامتي أمامك، وبصغر حجمي! أتضاءل وأكاد أتلاشى كلّما غمرتِني بحبّك، وكلّما جلست إلى جوارك نتلو الحاضر والماضي والأحداث وتعاقب السّنوات على عُمرَيْنا... وكم أودّ لو تمتدّ إليّ ذراعاك لتعيدني إلى حضنك أشمّ عطرك وتعود إليّ أحلامي أخطّها صورا على فضاءات الخيال دون خجل من عمري وسنوات يعاندني مرورها وأنا البعيدة القريبة.
...جلست إلى جانبها في حديث عن الأيّام الّتي تفصلنا في كلّ غياب وتبعثنا في كلّ حضور.. تحدّثنا عن الأبناء وعن الإخوة.. عن الغائبين في بلاد الهجرة، وعن صعوبة العيش في هذا الزمان.. تحدّثنا عن أبي رحمه الله، عن سعة قلبه الّذي احتمينا به وعن فرحه وغضبه..عن مزاجه وطبعه...وترحّمنا عليه، وضحكنا... وأخذَنا الحديث بعيدا، فتحدّثنا عن الدراسة وعن السّهر بين دفّات الكتب... وعن نتائج امتحاناتي عندما كنت طالبة.

قالت بكلّ هدوء: "مع كلّ نتيجة امتحان أَلِدُكِ من جديد".
 صَمَتَتْ. ونظرتُ إليها فأردفت بنفس الهدوء: "ولدتك مرّات كثيرة. وكم دعوت لكِ وأنا أراك تنتظرين حصاد ما كنتِ تزرعينه في سماء اللّيالي الباردة!"
آه أمّي! كنت أبحث عن طريقة أجزيك بها عن ولادة واحدة؟ فكيف لي أن أجزيك عن كلّ هذه الولادات؟

غيّرتُ موضوع الحديث هربا من ثقلٍ ترزح تحته خفقاتُ قلبي. لا أذكر الموضوع الّذي تحدّثنا فيه لكن سمعت ابنتي إلى جانبي تقول لي: "أمّك تحسن الحديث في السياسة وأَعلَمُ منكِ بوضع البلاد والعباد".
نعم.. أمّي تتابع الأخبار في كلّ العالم، تعرف جغرافيّته ، وتعرف أحوال الطقس في أكثر بلدانه،
و تراقب أحوال البلدان في جزء من أروبا وآسيا وتحمد الله أنّها ليست مضطرّة إلى معرفة أحوال أمريكا ظالمة الخَلق المنتهكة للحرمات وغير الحافظة للحريّة وللإسلام... تحلّل بنفسها الوضع السّياسيّ وحتّى الاقتصاديّ وتتساءل إذا كانت الثّورة ستؤثّر في ثمن بطاقات السّفر وتخاف أن تُحرم الأمّهات من عودة أبنائهنّ من بلاد الغربة وأن يطول انتظارهنّ..." مساكين! ألا يكفيهم الغربة حتّى تستعر النار في سعر ركوب الطّائرة؟... هل تظنّين أنّ السفر بحرا أفضل؟"

فاجأني السّؤال، قلت: "هو أبطأ". قالت: "الانتظار قاتلٌ وعليّ التعوّد على هذا الظّرف الجديد. أعاد الله علينا الغائبين وحفظهم وسلّمهم حيث هم. المهمّ أن يكونوا بخير وستمرّ هذه الأيّام ويعود الخير إلى البلاد ونفرح جميعا بالعودة إلى الأهل".

تحدّثنا بعدها عن الياسمين وعن الآس وعن الفلّ وعن السوسن وعن كلّ الورود... واستفاقت الذّكرى تقودني إلى صفو الصّبا وإلى يديْ أبي رحمه الله تضع في كفّيّ حفنة من الفلّ لأوصلها إلى أمّي ويوصيني بها خيرا.

 أمّي تحبّ الورد كثيرا وغرفتها تعبق برائحة الورود البيضاء، وليس صدفة أن يستعيرالفلّ والآس والياسمين صفاء بياضه من روح أمّي؟...

والدي يحبّ الآس.  أمّي تسقيه في مواعيد محدّدة وفي الصّيف يُبعِدُ أبي تعبه بعد عمل يوم شاقّ بِقطفِ زهره وتوزيعه على البنات: "لكلّ أميرة من أميراتي زهرة آس في مثل بياضها". كنّا نشتمّها ونعيدها إليه تنازلا منّا عن طيب خاطر لنستمتع ونحن نراه يجمعها في باقة يقدّمها إلى أمّي.

ـ "هذا عقد البنات. حفظهنّ الله"...
في حين كانت هذه المشاهد تثقب اللّحظات مع أمّي وتكمل هيأة الصّورة كما في الماضي، كان الحاضر يثبت وجوده بحضور أمّي المميّز. كنت أنا فقط الحاضرة في المكان معها ولكنّ الحديث أعاد جمع لؤلؤات العقد المتناثر بالحديث والاستحضار وكأنّ أمّي تتعمّد إعادة النّظم...سبع من البنات جمعتهنّ في سلك رفيع من بديع حديثها وجميل دعائها: "أنتنّ أفضل البنات، وأحبّكنّ دون تمييز... وهذا قلبي اسأليه إن كنت أخيّر واحدة عن الأخرى". ولأتفادى الكلام عن قلبها قلت:
ـ "وأنت واسطة العقد ...رحم الله أبي. وحفظ إخوتي جميعا، فهم أيضا نجوم نستضيء بها".


وأخذت يدها أقبّلها. هي لا تحبّ أن نقبّل يدها ولا رأسها.لا أدري لمَ ترفض. قرّبت كفّها أقبّلها وأشمّها، فانبعثت من راحتها عطور الياسمين و الفلّ والآس. لم أكن أتخيّل. قرّبت راحتها من ابنتي وطلبت منها أن تميّز الرّائحة فقالت : "هي رائحة الفلّ و الياسمين". وكيف لا تتعطّر كفّاها وهي الّتي تتعطّر الأرض بعطر قدميها!

قلت لابنتي أمازحها:" أمّي أفضل من أمّك، فأمّك تحبّ الورود بأنواعها ولكنّ راحتيْ أمّي قواريرُ تختبئ فيها كلّ العطور ... هي أفضل وردة".
وصادقت ابنتي على كلامي. وقبّلت جدّتها تتعطّر بعبق راحتيها وجبينها...

تَوَاصُلٌ روحيّ جميل بين الحفيدة والجدّة، تلاه دعاء بمزيد النّجاح في دراستها.

"أرجوك أمّي لا تتحدّثي عن الدّراسة، لا أحتمل وزر عطاياك".








وأنت المرايا تلمّ زوايا العطور وغير الزّوايا ***مظفّر النوّاب*** وأنت المرايا تلمّ زوايا العطور وغير الزّوايا ***مظفّر النوّاب*** وأنت المرايا تلمّ زوايا العطور وغير الزّوايا ***مظفّر النوّاب***
زاوية دافئة من القلب *** مدوّنة خاصّة *** وهيبة قويّة *** الكتابة عصير تجربة ولحظة صدق تحرّرنا من قيود تسكن داخلنا، نحرّرها، فنتنفّس. ***وهيبة قويّة

الأكثر مشاهدة هذا الشهر

مرحبا بزائر زوايانا

free counters