‏إظهار الرسائل ذات التسميات زاوية للّنور. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات زاوية للّنور. إظهار كافة الرسائل

20 مارس 2024

رمضان... زمان برامج إذاعيّة وتلفزيّة

رمضان...
حنين وذكريات

 

لي مع رمضان ذاكرة عميقة تمتدّ إلى طفولتي البعيدة توشّحها ذكريات برامجي المفضّلة الّتي تابعتها بحبّ وأحنّ إليها إلى اليوم.

أستعدّ كلّ عام لرمضان فأرتّب كثيرا من تفاصيله لينشر رائحة العبادة والقداسة حولي وحول عائلتي، وأرتّب أيضا حنيني إلى برامج كنت لا أخلف مواعيدها.

فترافقني الإذاعة نهارا في موعد ثابت، وأرافق البرامج التلفزيّة بعد الإفطار. هذه عادات ورثتها من عائلتي منذ الطفولة وأكاد لا أتخلّى عنها، أو فعلت. فقد تغيّر الوقت وتغيّرت البرامج.

يركض بي الحنين في أوّل يوم من الشّهر المعظّم بخطوات الطّفلة الّتي تحاول تقليد الكبار والمساعدة في إعداد الإفطار، وهي تلاحق بسمعها برنامجا هو من ثوابت الإذاعة الرمضانيّة منذ 1963 إلى اليوم هو برنامج "تحيّة الغروب" لكروان الإذاعة التونسيّة "عادل يوسف" لحقته في أواسط السبعينات ويرافقني إلى اليوم بعنوان "رمضان ملء قلوبنا" ومع أصوات مختلفة لم تُبعِد صوت حنجرة رمضان الذّهبيّة عن ذاكرة سمعي. وأشدو لرمضان مع البرنامج: "رمضان ملء قلوبنا يا ربّنا يا ربّنا..." وأدخل عالمي المقدّس مع منوّعة أسمع فيها النقشبندي والأذكار وأسماء الله الحسنى، وأستأنس فيها بتفاسير الآيات والأحاديث، وقد كنت لا أفهمها، ولكن إعاداتها جعلتها قريبة من قلبي وفهمي. فأسمع محاضرات عميد الأدب العربي طه حسين الّتي ألقاها في تونس، كما أسمع محاضرات فضيلة الشيخ محمّد الفاضل بن عاشور، وأستمتع بمحاضرات المؤرّخ فرحات الدّشراوي ومحاضرات الأديب الكبير محمود المسعدي. هي صفحات قليلة سريعة خفيفة على القلب يتكرّر بعضها في كلّ رمضان فتمتعني وتحيي ذلك الفضول الّذي كان في طفولتي.

تتخلّل فقرات البرنامج أغنيات دينيّة وأدعية بأصوات عربيّة عرفتها في صغري صوتا قبل أن أرى وجوهها إضافة إلى الأصوات التونسيّة المتميّزة. فتراني أسكت لأسمع أو أردّد بيني وبين نفسي "آمين" على دعاء الدّعين أو أنشد مع المنشدين وأغنّي مع فايدة كامل: "إلاهي ليس لي إلاّك عونا فكن عوني على هذا الزمان"... وحفظت أدعية بصوت عبد الحليم، وشدوت مع ياسمين الخيّام كما غنّيت مع صباح: "وإن قلت يا خويا الأكل كثير، وبلاش بعزقة وبلاش تبذير، يصرخ ويقول يا خواتي صايم..." ومع شريفة فاضل"بدري لسّة بدري والأيّام بتجري يا شهر الصّيام"... وبين كلّ هذه الفقرات أعمال إذاعيّة تونسيّة لفرقة التمثيل الإذاعيّ، هي مسلسلات كانت تبثّ إذاعيّا وتلفزيّا في بثّ مشترك أو من إنتاج الإذاعة منذ تأسيسها في 1938 توارثناها ونحنّ إليها دائما وهي قيّمة لما فيها من مواضيع اجتماعيّة وأخلاقيّة مثل مسلسل "الحاج كلوف" أو "شناب" أو " برق الليل" أو "حكايات عبد العزيز العروي" وغيرها... وتحرص الإذاعة على بثّ مسلسلات جديدة كلّ رمضان تجد مساحتها في برنامجنا اليوميّ الرّمضانيّ وتتنوّع ما بين التاريخيّ والهزليّ والاجتماعيّ.

وأظلّ كلّ يوم على هذه الحالة المتقلّبة بين الثقافة والترفيه والوعظ والإرشاد والدّعاء والتسبيح حتّى تبدأ فقرة تلاوة الذّكر الحكيم الّتي يختار لها البرنامج أفضل الأصوات مثل عليّ البرّاق وعبد الباسط عبد الصمد وعلي الحصري والمنشاوي والطّبلاوي فيزداد اليوم بهاءً ويطمئنّ قلبي، ثمّ يرتفع صوت المؤذّن يَأذن بـ "لمّة" العائلة حول الإفطار لتبدأ رحلتي مع البرامج التلفزيّة للمساء والسّهرة.

في الحقيقة لم تكن البرامج الرمضانيّة المرئيّة تبثّ بعد الإفطار فحسب بل كانت تبثّ نهارا حين صارت مساحة البثّ التلفزيّ أوسع، وخاصّة في أواخر السّبعينات وبداية الثمانينات، ومع حلول رمضان في الصّيف بثّت علينا تلفزتنا التونسيّة سنة ثمانين أو واحد وثمانين، مسلسل "صيام صيام" مع يحيى الفخراني. كان يُبثّ ظهرا ويحمينا من قيظ الصّيف ومن العطش.

لهذا المسلسل أثر في نفسي. كنت أتابع يحيى الفخراني بشغف وذاكرتي تحتفظ بصورة فردوس عبد الحميد وبراءة وجه آثار الحكيم والأهمّ الدّروس القيّمة الّتي تشجّع على الصّيام وتظهر قيمته وتفسّر سلوك الصّائم وضوابط الصّوم في تصوّر أعجب الطّفلة الّتي كنتها خاصّة وأنّ الحلقات كانت تشفع بتعاليق الكبار في العائلة وتفسير بعض مظاهر السّلوك في المسلسل. فأحببت كلّ أبطاله ولم أشاهده منذ ذلك الوقت ولكنّي أدندن في رمضان في أذن أولادي: «ده صيام صيام مش امتناع عن الطّعام» وأحدّثهم عن مواقف شاهدتها في الحلقات ودعّمها العمر.  

يبقى المسلسل نموذجا من الأعمال المؤثّرة في النّفس والعابر للأجيال. وكم نحتاج إلى مثله اليوم لتربية الجيل الجديد.

كانت تلفزتنا التّونسيّة تبثّ علينا تقريبا أكثر الأعمال المصريّة الرّمضانيّة حينها. فتابعنا مسلسلات تاريخيّة دينيّة مازالت محفورة في الذّاكرة وفتحت في القلب طريقا إلى محبّة شخصيّات لها أثر في تاريخنا الإسلاميّ مثل " محمّد رسول الله" و"عمر بن عبد العزيز" و"موسى بن نصير" وغيرها كثير لم تبخل به شاشتنا بالأبيض والأسود أو بالألوان فتابعنا عبد الله غيث وأشرف عبد الغفور ونور الشّريف وغيرهم في أفضل أعمالهم التاريخيّة والدّراميّة، وشدّت عيوننا إلى المساحات الزجاجيّة الملوّنة تتابع بشغف رأفت الهجّان وليالي الحلميّة وحياة الجوهري والمال والبنون.... وأعمال كثيرة ترافق السّهر بعد صلاة التراويح وتجمع العائلة حول حكايات وأحداث تصير حديث الجميع إذا ما انتهت. ومع ذلك كنت في طفولتي، وعلى الرّغم من كثرة المسلسلات، أستاء من عدم بثّ شريط ليلة الأربعاء بالأبيض والأسود مع أبطال السينما المصريّة والّذي كان يميّز شاشتنا التونسيّة منذ عرفنا التلفزة في أواخر الستينات.

ازدانت سهراتنا الرّمضانيّة أيضا بألوان الفوازير مع نلّلي وسمير غانم وفؤاد المهندس وشريهان... وتَباريتُ مع بنات العائلة لمعرفة حلّ الفوازير وحلمنا أيضا أن نكون بطلات في الرّقص والغناء ونشارك في الفوازير وكبرت أحلامنا ونحن صغيرات لتتلاشى حين كبرنا ولكن لم يتلاش الشّغف الّذي به نتابع حلقات من ذاكرة التّلفزة تعيد علينا بعض اللّقطات المتفرّقة من فوازير السنوات الماضية وتذكّرنا ببعض الأعمال.

تغيّر وجه تلفزتنا بتغيّر البرامج ولا أنكر تنوّع برامج الشّهر الكريم في كلّ سنة ولكن ظلّت ذاكرتي القديمة مسيطرة على ذوقي ووقتي. ومازلت مع كلّ رمضان أفتح صندوق الذّكرى وأختار برامجي الّتي تابعتها منذ أعوام بعيدة وسكنت روحي وذاكرتي. فأقيس الماضي الثّابت في ذكرياتي بالحاضر الّذي أتابعه بلهفة أقلّ طغت عليها مشاغل الحياة.

 

رمضان كريم

ودام الشّهر المبارك ذكرا لله وذاكرة تجمعنا بأحبابنا وأنفسنا كلّما حملنا الحنين وحلّ بيننا.

وهيبة قويّة
شاركت بهذه الذّكريات (صوتا) في:
صوت العرب: برنامج "بيانولاّ" مع مي عبد الدّايم
رمضان 2021

 

9 فبراير 2023

الشّكر للنّعمة يبقيها...

الومضة 220 من المجموعة الشّعريّة
"منسيّات الغجر" للشاعر يوسف حسين الهيازعي/ العراق

يمرّ في حياتنا كثير من النّاس، قد لا ننتبه إليهم أو لا ينتبهون إلينا...

ويمرّ بعض النّاس ويتركون فينا أثرا طيّبا. فنجدهم، عن بعد أو عن قرب، في عالم الواقع أو في عالم الافتراض، وقد صاروا جزءا من صداقات نبيلة وعلاقات إنسانيّة تسمو عن المادّيّة والنفعيّة... يصيرون لحظة صدق نقف عندها بإعجاب حينا، بعمق حينا، باحترام... كثيرا.

من بين هؤلاء النّبلاء، شاعر عراقيّ: "يوسف حسين الهيازعي" قابلته للحظات قليلة في بهو الفندق حين امتلأ بالمشاركين في مهرجان المربد في دورته 34، سلّم، وقدّم نفسه بأدب وهدوء، وقدّم نسخة من ديوانه "مزمور العودة"، الباقي بين يديه. ولمّا كنت الشّاعرة الوحيدة بين عدد كبير من الشّعراء صار الكتاب لي. وعدت من العراق بمجموعة قيّمة من الكتب أعتزّ بها في مكتبتي ووزّعت قراءتها مع ما في مكتبتي ممّا لم أقرأ بعد.

ويوم نشرت قصيدتي المربديّة على صفحتي في عالم "الميتافيرس" الافتراضيّ الأزرق نشر الشّاعر "يوسف حسين الهيازعي" ومضة على صفحته باسمي، فاحتفظت بصورة منها. لم أقل يومها شيئا سوى الشّكر. وأخذت مباشرة كتاب "مزامير العودة" أقرأ، وأنا أعتبر أنّ قراءة الكتاب فرصة لقول "شكرا" بطريقة أخرى لمن أهدى قصيدتي اهتماما ووقتا ليكتب عنّي.

الومضة على صفحة الشاعر يوسف حسين/ العراق

ومنذ يومين وصلتني صفحة من آخر إصدارات الشّاعر"يوسف حسين الهيازعي" بعنوان "منسيّات الغجر" يتضمّن "الومضة" الّتي جاءت في تعليقه على قصيدتي "من ذاكرة بابنا القديم" الّتي قرأتها في مهرجان المربد في دورته 34 على منصّة جامعة القرنة، ملتقى الرّافدين. فكيف أشكر الشّاعر؟ وأنا الّتي تؤمن بالشّكر بين الأصدقاء أسوة بقول الشّاعر إيليا أبو ماضي:

"الشّكر للنّعمة يبقيها".

سأقول: شكرا أيّها الشّاعر النّبيل ودام عطاؤك. لا يسعفني الكلام. والصّمت في هكذا مواقف أبلغ.

وهيبة قويّة

 

المجموعة الشّعريّة "منسيّات الغجر"
 طبعة الاِتّحاد العامّ للأدباء والكتّاب في العراق 2022
بـ 386 صفحة قياس 14×21 سم


المجموعان الشّعريّان: مزمور العودة ومنسيّات الغجر
للشاعر يوسف حسين الهيازعي/ العراق

29 أبريل 2014

وسام فخر...

صورة من أمسية "الفلسفة والشّعر"
مع الفيلسوف الشاعر "محمّد الحسن الزوزي الشابّي" بنادي الإمتاع والمؤانس
ة

شهادة أعتزّ بها كثيرا من الفيلسوف محمّد الحسن الزّوزي الشّابّي وجدتها على نصّي الّذي نشرته في عود الندّ في اختتام سنتها الثّامنة عن مسيرة الأديب: عبد المجيد يوسف.
هكذا تصبح المسؤوليّة أكبر تجاه من وثقوا بي...
وشكرا لكلّ من ينير الطّريق نحو الأفضل لنتدرّج جميعا على مدارج العلم...
كلّ الشّكر لكلّ الأصدقاء، وللقائمين على مجلّة عود الندّ الّتي وثقت في نصوصي، وللدّكتور عدلي الهوّاري رئيس تحريرها.
وهيبة ڤويّة
محمّد الحسن الزّوزي الشابّي يقرأ قصيدة "أراك" بالفرنسيّة من ترجمته

L'une de mes rencontres les plus remarquables durant mon dernier court passage en Tunisie. Grâce à des personnes de la qualité et de l'étoffe de Madame Wahiba Qawiyya[1], je pense qu'il n'y a rien à craindre pour l'altitude morale et la dignité politique portées en avant par les femmes tunisiennes, aux premiers rangs des levées de conscience pour un sauvetage du pays gravement convoité par les islamistes d'opérette qui s’imaginent faire marcher l'histoire à reculons. Hommage et soutien fort à foyer d'activités de communication et diffusion des idées et des savoir, lieu vivant d'expression directe des poètes et des artistes très longtemps ignorés ou bâillonnés. Merci Wahiba وهيبة قوية pour cet exemple magistral de générosité fondamentale d'action véritablement poétique et révolutionnaire au sens constructif de l’œuvre révolution.
Zouzi Chebbi Mohamed Hassen.



[1] Wahiba Gouia

2 سبتمبر 2013

نُثار الذّكريات... إليك بنيّـــتي

مع ابنتي... ننثر الحبّ ابتسامات


نُثار الذّكريات... إليك بنيّـــتي


    منذ ساعات وأنا أراقب الظّلام. أنتظر أن يزورني النّوم. ولكنّه أبيّ عَصِيّ هذه اللّيلة كما هو دائما في اللّيالي الّتي تسبق مناسبات هامّة في حياتي. هذه اللّيلة سيشرق صباحُها فيكون أوّل يوم تستقبل فيه كبرى بناتي حياتها الجامعيّة.
أوّل يوم في الجامعة، أراه شبيها بأوّل يوم أخذتها فيه إلى روضة الأطفال، وما أكبر شبهه بأوّل يوم دَخَلَتْ فيه المدرسة الابتدائيّة.
    ليس الأرقُ ما يمنعني من النّوم ولا الخوف عليها، وإنّما هذه الصّور المتهاوية من ذاكرتي في فضاء الغرفة الغرفة فتثقب الظّلام وتنير قلبي.
هنا... أراها تلعب، وفي هذه الزّاوية من البيت أراها منشغلة بدميتها، وهنا ألمحها منكبّة على قطع متناثرة لصورة تركّب أجزاءها بحماس، وفي هذا الرّكن أراها منزوية تكتب على دفتر خاصّ تخفيه كلّما دخلت عليها، وهناك أراها وفي يدها كتاب تطالعه، وها هي في الحديقة بين الأزهار البريّة تحاول مسك الفراشات، وها هي تتعرّف إلى كلّ حمامة تقف على سور البيت وتسمّيها باسمها الّذي اختارته لها، بل ها هي تلقي الحَبّ للدّجاجات...
 هنا أراها تبتسم للشّمس وتضحك... وها هي على شاطئ البحر تلاعب موجه ويلاعبها وتندفع إليه برجليها الصّغيرتين في صخب بريء. وها هي توسع الخطى كي لا يفوتها درس من دروسها... أراها تدخل فتلقي محفظتها في أقرب مكان لتتهالك على أقرب كرسيّ تطلب الرّاحة، وهنا تجلس أمام الكمبيوتر تداعب مفاتيح لوحته بمهارة...
بل أسمعها... إنّها ترسل ضحكاتها الصّاخبة، أو هي تغنّي متعمّدة إزعاجي وتطلق العنان لصخب تعرف أنّني لا أحبّه. وها هي ترفع صوتها بالنّقد لكلّ ما تراه أو تقرأه... صوتها الآن يصلني مستهزئا ساخرا من مواقف لا تعجبها. أسمعها تناديني، وتسألني ترجمة كلمة أو عنوان أغنية، أو عنوان كتاب أو اسم كاتب. وأسمعها تضحك بجنون لأنّها تسمع منّي لفظا لا تعرفه تقول إنّه من قاموس لغة غريبة لم يعد لها محلّ في لغة أبناء هذا الجيل.
صوتها يرتفع تارة وينخفض أخرى حسب المواقف الّتي تعيشها، ولكن يكثر صمتها، لأنّ حديثها مع الكتب كثير ومع لوحة مفاتيح الكمبيوتر صار  أكثر، وصوتها أجمل عندما يكون صمتا إذْ هو دراسة أو مطالعة أو كتابة أو تفكير في حلّ مشكل رياضيّ أو فيزيائيّ أو تصميم لما لا أفهمه على الكمبيوتر.
أصغي إلى الظّلام الصّاخب في غرفتي وفي نفسي، أميّز من بين كلّ الأصوات المتعالية في أرجاء البيت، صوتها الغاضب يرتفع بالشّكوى من فوضى إخوتها. بل ها هي تلاعبهم وتنصحهم وتشجّعهم أو تعينهم على دروسهم، أسمعها الآن وهي توشوشهم فيصمتون وينتبهون إليها ويأتمرون بأوامرها ويسود الهدوء....
كم هي رائعة عندما تكون هادئة، ولا يصدر من غرفتها غير موسيقى كلاسيكيّة لبتهوفن أو موزارت أو تشايكوفسكي... أو موسيقى أوبيراليّة إيطاليّة... أو تكون مستمتعة بسماع أمّ كلثوم واسمهان،... وحتّى " المالوف" ووصلات "الرّشيديّة" والموسيقى التّونسيّة من العتيق تسمعها بمتعة.
    صار للظّلام عطر مميّز يحمل أوّل عطور ابنتي، رائحة مولودة جديدة، أميّزها به عن كلّ المواليد، إلى اليوم لا أحد من المواليد الجدد أو إخوتها له عطرها... ولكن كلّ شيء يتغيّر وصارت تختار لنفسها ما تستحسن من العطور ثمّ اختارت أن نستعمل أنا وهي نفس العطر. فرحتُ للفكرة فقد شعرت أنّها تحاول أن تتشبّه بي، وليس في الدّنيا أجمل من أن أرى ابنتي تقلّدني مع أنّي أسعى إلى أن تكون مستقلّة في شخصيّتها وأن تكون لها بصمتها. وهذا أيضا ألاحظه عليها جيّدا.
    يتسرّب من ظلام الغرفة عبق الورد والياسمين وها أنا أمسح عنها ما تبقّى من قطرات ماء على جسمها الصّغير بعد حمّامها الصّباحيّ المنعش وأغمرها قبلا فتضحك وتغطّي وجهها بيديها وتحاول أن تبعدني ثمّ تدفعني إلى أن أغمرها أكثر. كم لعبنا معا، وكم كبرت اليوم عن مثل هذا اللّعب ولم أعد ألاعبها كما أريد أنا. أصبح لها اختيار خاصّ وذوق لا يجب أن أناقشها فيه.
ما زال الظّلام يُسْقِطُ عليّ صورا من هنا وهناك، وتغزوه بقع من الضّوء خافتا مرّة وساطعا أخرى. وها أنا أرى السّنوات تمرّ وأرى ابنتي أمامي تنظر إليّ فلا أجد غير صوتي يدعو لها.
كَبُرْتِ بنيّتي، ولا يسمح الوقت بالنّصيحة، فقد انتصحتِ بنصحي دائما، وليس الوقت يسمح لأُثْقِلَ عليك بخوف الأمّ. بنيّتي، الآن ليس لي غير عطر الدّعاء أرشّه عليك وعلى أحلامك الهادئة ليحفظك الله من كلّ سوء. فاجعلي دعائي عطرا تتجمّلين به وتحملينه تميمة وليس غير قدرة الله ترعاك.
بنيّتي، حتّى الدّعاء صار يكتظّ في صدري وعلى لساني فلم أعد أعرف أيّ الأدعية أفضل في مثل هذا الوقت، يستجيب الله لكلّ دعاء فلا تشغلي بالك بما يزدحم في قلبي من المشاعر وأعلمي أنّ هذا القلب في صدري يتعطّر نبضه بعطر وجودك فيه. وسيرافقك حيثما كنت.
   بدأت خيوط الفجر تنشر نسمات رقيقة في مثل رقّتها. وأراني الآن أمشط شعرها وأعدّها ليومها الأوّل في روضة الأطفال، وها هي تغرقني أسئلة بصوت عذب وبكلام لا تنطق نصف حروفه. وتسألني عن الهديّة الّتي سأكافئها بها لأنّها ستكون هادئة وأفضل البنات. كانت كذلك حتّى صار هذا الهدوء يزعجني. كلّما سألت عنها منشّطة فصلها تخبرني أنّك الهادئة الوحيدة وأنّها تخفي وراء الهدوء نبوغا وتميّزا لأنّها الوحيدة أيضا الّتي كانت تنجز أنشطتها دون أخطاء، حتّى صار خوفي عليها أضعافا. فكلّ الأطفال يلعبون في الفصل أثناء التّنشيط وهي تهدأ وتُظهر خجلا لتندفع في البيت بكلّ الأسئلة وبالأناشيد الّتي حفظتها إضافة إلى الهدايا المفروضة الّتي ألزمتني بها منذ أوّل يوم.
   بنيّتي، هل تريدين هديّة لمثل هذا اليوم؟ بكلّ حبّ نختارها معا وترسمين بها ذكرى أوّل يوم في الجامعة. ما أجمل ذكرياتنا إذا تساقطت منها بقع من النّور على عتمة المكان، أعيشها من جديد وأراكِ كما أنتِ، وكما كنتِ.
هل تذكرين أوّل درس اتّخذتِ فيه دور المدرّسة المجتهدة؟ كان في وسط العاصمة أمام الإشارة الضّوئيّة في أكبر شارع، لم تتجاوزي حينها الرّابعة. وقفنا أمام الضّوء الأحمر فأمسكت يدي بيدك الصّغيرة ونظرتِ إليّ بعينيك اللّامعتين وأفهمتني متى علينا أن نعبر الطريق ومتى على السيّارات أن تعبر، وأجمل ما في الدّرس عِبْرَتُهُ" علينا احترام إشارات المرور حفاظا على أنفسنا من حوادث الطّريق".
 وسرنا في الطّريق. وكم مرّة وقفنا عند نفس الإشارة. نعبر الطّريق لنصل إلى المكتبة، صار من عاداتك أن لا رجوع إلى البيت قبل تفقّد جديد الكتب وقبل شراء مجلّة أو كتاب، وكم مرّة لم نكن نجد جديدا فكنت أشتري رضاك بالشوكولا. ومفاجآت الشوكولا. أنا أحبّ الشّوكولا وكنت أحلم بأن أذهب إلى سويسرا لآكل الكثير منها، ثمّ فكّرت  أن أزور باريس في عيد رأس السّنة فيحمل إليّ" بابا نويل" شوكولا كثيرة كما يفعل مع الصّغار هناك لأنّه لا يزور ربوعنا. حاولت أن أكون معكِ أكرم منه وبغير مواعيد وطيلة السّنة. فكلّ أيّام السّنة تنفع للهدايا ولم أجد أفضل من الكتب ومن الشوكولا لأنّني ألبّي رغبة في نفسي. فسامحيني. إذْ كنتُ بذلك أرضي نفسي قبل أن أرضيك. ليس هذا فقط، بل كنت أقترح عليك شراء لعب معيّنة أشتهي أن ألعبها بها. حتّى الدّمية المغنّية الّتي سمّيتِها "أمل" كانت فكرتي. الرّائع أنّك قبلتها في عيدك الثّالث بكلّ فرح وحفظت ما كانت تغنّيه وكنّا نستمتع بالأنشودة معا" على جسر أفينيون"، كنت حفظتها في المدرسة وحفظتها أنتِ قبل المدرسة. والحمد لله أنّ فكرة الدّمية المتحرّكة لم تكن لي، أنت أردت دمية تمشي، فأوصيت من جاءني بها من إسبانيا، وسمّيتِها "دنيا". لم تحبّيها كثيرا ولكنّك استمتعتِ بها، ولم أرغب بها أنا كثيرا أمام دمية "الباربي" وألعاب التّركيب...
دفعتك إلى الدّمى واخترت أنت السّيّارات والطّائرات ولعبة الجنود، ولمّا كبرت صارت ألعاب السباقات والعنف هي المفضّلة لديك كأنّك تنتقمين من الهدوء الّذي أنتِ عليه غالب الوقت. عندما سألتك لِمَ تعجبكِ مثل هذه الألعاب لم تجيبيني بغير أنّها مثيرة وتصلح للأذكياء ليتخلّصوا من المآزق، إجابتك لم تكن تقنعني ولكنّي لم ألحّ في السّؤال، أعرف أنّ لكلّ شيء نهاية وأنّك لن تلعبي كلّ الوقت. وما كان يخفّف من انزعاجي حبّك للكتب والمطالعة.
تذكرين عندما تسابقنا من منّا ستطالع كتبا أكثر في العطلة الصّيفيّة؟ كنت لا تفعلين شيئا غير القراءة، حطّمتِ أرقاما قياسيّة، سبع مائة صفحة في يوم واحد، كم كتابا؟ ما أذكره أنّك في تلك الصّائفة التهمت كلّ مؤلّفات توفيق الحكيم التهاما وأنّك كنت تحدّثينني بعدها عن محتوى الكتاب وتنقدينه وتضحكين. لم أكن أعرف أنّك ستحبّين كتب توفيق الحكيم مثلي. وأذكر أنّ ثلاثيّة نجيب محفوظ أخذت من وقتك ثلاثة أيّام، حتّى خفت أن تنتهي مطالعتك لكلّ ما عندنا من الكتب قبل نهاية العطلة. هل تذكرين كم فرحت بنسخة ثرثرة فوق النّيل عندما وجدتها قديمة؟ أخبرتك أنّنا نملك الكتاب، فقلت لي بأنّ للنّسخة الّتي اقتنيتِها رائحة مميّزة، هي رائحة الورق القديم، أجمل رائحة. وكنتِ لا تقرئين كتابا إلاّ بعد أن تشمّيه وتتعرّفي على رائحته. كم قرأنا من الكتب معا؟ وكم طلبت رأيي في كتب قبل قراءتها... ويوم طلبت منك قراءة كتاب"الحضارة أمّاه" وجدتك تتفاعلين معه من بدايته، ولأوّل مرّة وجدتك تقطعين قراءتك لكتاب بكثير من الكلام عنه، بعدها قدّمت إليّ ورقات مطالعة لتكشفي قدرتك على الفهم والتّلخيص وتحليل القضايا والشخصيّات، ولولا أنّني أتابعك لقلت إنّك نقلت العمل. احتفظت بأوراقك كما احتفظت برسالة بعثتها إليّ في أوّل سنة في الإعداديّة. وكانت أروع رسالة من بنت إلى أمّها عنوانها"أبصرت النّور في ينبوع ذلك القلب"، كتبتِ فيها:
)تيّمتني، أحببتها... لماذا؟ لحسنها ولجمالها أو لرقّتها؟ لا أدري...كلّ ما أدريه أنّني أصبحت كالسّنبلة الخضراء المنتظرة أشعّتها لتنضج وتُقطف. من دونها أكون مَجرّةً تنتظر كواكب وكواكب لتملأني. بل البحر الخالي من الأسماك، والجملة المجرّدة من المعاني والكلمة الخالية من الحروف، لقد صرت قلبا لا يعرف معنى المحبّة إلاّ بها، قلبا محبّا لذكرى اسمها "أمّي"، الكلمة الّتي بقيت تغنّي الفرح في قلبي وتنشد لك لحن الحبّ الجميل وتقول لك من القلب إلى القلب : أحبّك أمّي.(
    ربّما أسأت إليك بنيّتي عندما لم أقبل فكرة اختيار شعبة الآداب وحفّزتك على العلوم، لم أكن أنوي الوقوف أمام طموحك ولكنّ تميّزك في العلوم كان يضمن لك ما تحلمين به. ألست أنت من حلمت بأن تكوني مهندسة وأن تصعدي إلى المرّيخ وأن تصلي إلى الكواكب البعيدة؟ أنا كنت أحاول أن أضع أقدامك على الأرض في تصوّر علميّ فيزيائيّ، فنحن نعيش على الأرض بفعل الجاذبيّة ونطير بأحلامنا ثمّ نعود لننفّذها على أرض الواقع، وأردت أن تكوني على أرض الواقع لتحقّقي أحلامك.
اليوم عندما تدخلين أوّل دروسك ستحلمين أكثر، وستجدين أنّ الأحلام ممكن تحقيقها بالاجتهاد وأنّ المعادلة الحقيقيّة الّتي نعيش بها هي أن ننفّذ في الواقع ما نحلم به وإلاّ فما فائدة الاحلام؟ وما قيمة الواقع؟
افتحي الباب بنيّتي، واخرجي إلى هذا العالم الكبير ولا تَرهبي. لن تبتعدي. فكلّ ما في الأمر أنّك تعودين إلى العاصمة حيث كانت دروسك الأولى قبل المدرسة، وهي كما احتضنتك صغيرة ستحتضنك اليوم.
أنا أيضا أحاول أن أستوعب فكرة أن لا تكوني معي كلّ اليوم وأن تعيشي بعيدة عنّي، ولكن هذا الابتعاد ضروريّ لتكوني كما تريدين. ولأراك تحصلين على شهادة عليا. أطلقي العنان لطموحك وحلّقي بجناح الأمل وعودي إلى الأرض لتجعلي حلمك واقعا. سنكون معا دائما وردتي الجميلة وسأسقيك من حناني وحبّي كما فعلت دائما.
ابتدأتِ طريقكِ بخطواتك الأولى إلى الجامعة، وافتتحتُ نهاري بالدّعاء لك وبخفقات من قلبي أرسلتها وراءك تحرس خطاك وتحدو طموحك.
حفظك الله ملاكي، كم تمنّيت أن أمسك من جديد يدك لأدخلك قاعة الدّرس، وتودّعينني بلمعان عينيك وتورّد خدّيك وهمسة حبّ من شفتيك تطردينني بها زاعمة أنّك كبرت ويمكنك الاعتماد على نفسك.
وهيبة قويّة
5 سبتمبر 2011
وأنت المرايا تلمّ زوايا العطور وغير الزّوايا ***مظفّر النوّاب*** وأنت المرايا تلمّ زوايا العطور وغير الزّوايا ***مظفّر النوّاب*** وأنت المرايا تلمّ زوايا العطور وغير الزّوايا ***مظفّر النوّاب***
زاوية دافئة من القلب *** مدوّنة خاصّة *** وهيبة قويّة *** الكتابة عصير تجربة ولحظة صدق تحرّرنا من قيود تسكن داخلنا، نحرّرها، فنتنفّس. ***وهيبة قويّة

الأكثر مشاهدة هذا الشهر

مرحبا بزائر زوايانا

free counters