مشهد عامّ لمدينة بنزرت
|
في يوم عيد أستحضر آخر زيارة لي إلى أرض
الجلاء بنزرت. كانت الزّيارة ثاني أيّام عيد الفطر.
دخلت المدينة من أوسع شوارعها وكانت كما عهدتها تزدحم بمن فيها وبسيّارات أهلها
وزوّارها. وما أكثر الّذين يمشون على الأقدام في اتّجاه "سيدي سالم"
و"الكرنيش" لقضاء ليلة من ليالي الصّيف اشتدّت حرارتها. وما أكثر من جاؤوا
إليها من مدنهم القريبة مثلي، لقضاء إحدى ليالي العيد مع الأطفال في عالم الألعاب
والمراجيح...
تركت الفرصة لذاكرتي تقابل صورة ما عشته
في بنزرت قبل سنوات وبين الصّور الّتي تتهافت أمامي وتتأرجح كما مراجيح الأطفال وتشدّ
نظري إليها عنوة
الحصن الإسباني والميناء القديم
|
توقّفت عند حصنها الإسبانيّ الّذي ما زال
يعبق بتاريخ الأندلس، وناداني الحنين إلى مينائها القديم وقد أرست فيه القوارب
الصّغيرة ولمعت مياهه لوهج الأضواء
السّاطعة في ليالي العيد والصّيف.
الميناء القديم ببنزرت
|
ولكنّي ليلتها لم أجد صورة الحنين. فقد شاهدت
على أرض الجلاء وجوها غريبة لا تحمل ملامح أهلها، وما سمعت صوتا ينتمي إليها. صارت
غريبة عنّي أو ربّما صرت غريبة عنها.
الجسر المتحرّك على قنال بنزرت
|
منذ عبرت القنال وتخطّيت الجسر المتحرّك
إلى أن وصلت إلى قلب المدينة النّابض بالحركة لاحظت أنّ المدينة، رغم كلّ البهجة المنتشرة
في أرجائها، شاحبة الوجه، وعطورها مختفية، وأصواتها صاخبة لا أفهمها أو بكماء لا تصل
إليّ لغتها. قد جعلتني أسير في أرجائها سير التّائهة والمصدومة بما حلّ بطهر أرض
الجلاء.
قلت في نفسي: هو تعب الصّيام، أفقد
المدينة ألقها. فرست في موانيها أشكال وأحجام لا تعي معنى العيد، أو أنّ البواخر
جاءت بالقوم من بحور بعيدة قد أنهكها السّفر فلاحت مثل الأشباح، وقبعت تحاول أن
تجد ظلالها على صفحة الماء...
الغروب على شاطئ المغاور بنزرت
|
عندما وصلت إلى " المغاور"
تردّد صوتي في تجاويف الصّخور وعاد إليّ بنفس السّؤال: ماذا وقع لك في غيابي عنك؟
أين مرحي وأنا أتمشّى قرب مياه بحرك؟ أين موجك المتطاول مرحا يغازل الصّخور ويوشوش
الرّمال؟ الرّمال... الرّمال.... مال... ل...
مغاور بنزرت
|
صار وجهي غريب الملامح أمام صخور الشّاطئ،
فما عرفتْني. أتراها نسيت كم جلستُ عليها وكم من الكتب قرأتها عندها؟
سؤالي حائر ذوّبه الموج، ونفسي قد استولى
عليها خوف من ظلمة تحيط بي لم تبدّدها الأنوار الواقفة على جانبي الطّريق، ولا صور
قديمة عن المدينة الجميلة.
الميناء القديم ببنزرت
|
نسيتُ من معي فتركت الشّاطئ الصّخريّ،
أبحث في تفاصيل المدينة الّتي تركتها منذ سنوات، هادئة حالمة. عدت إلى وسط المدينة،
واتّجهت حيث رمال البحر الّتي بنيتُ عليها قصورا وأنا طفلة، والّتي رميت إليها الياسمين
والورد وأنا يافعة وقرأت على بساطها أجمل الرّوايات والأشعار... ما تغيّر لون
البحر الّذي غزته أنوار اللّيل، ولكنّي لم أسمع صوت الموج ينساب في هدوء إلى سمعي،
فما عاد الموج يغنّي أغنيته الّتي حفظتُها عنه. ووجدتني أسير على رمل غريب
عنّي، عجز حتّى عن رسم آثار سيري عليه.
جسر سيدي سالم ببنزرت
|
أين المسير بنزرت؟ وشوارعك تضمّ خطاي ثمّ
تبتعد مثل الخائفة. هل صرتِ خائفة مثلي؟ هل تراودك الكوابيس؟ أين أحلام سمائك
المشرقة؟ وأين نسماتك المنطلقة الحرّة؟ أين أغنيات موجك؟
ما أشدّ غربتي فيك بنزرت. تغيّرت وسكنك الرّعب، حتّى أنّي أراه في خطى السّائرين، وفي حركات الواقفين وفي همسات الجالسين وفي نظرات كلّ النّاس وفي تأهّب الجميع للرّكض لأقلّ صوت يُسمع، حتّى قبل أن يفهم إنسان ما هو. أستغرب نعم، ولكنّي أفهم ما يقع.
فقبل أيّام قليلة، خلال إحدى سهرات رمضان بالمدينة، وقعت حادثة وضعت المكان مثل كثير من الأمكنة، تحت وطأة الفوضى وهراواتِ مُنساقين في تيّار التعصّب الدّينيّ.
ما أشدّ غربتي فيك بنزرت. تغيّرت وسكنك الرّعب، حتّى أنّي أراه في خطى السّائرين، وفي حركات الواقفين وفي همسات الجالسين وفي نظرات كلّ النّاس وفي تأهّب الجميع للرّكض لأقلّ صوت يُسمع، حتّى قبل أن يفهم إنسان ما هو. أستغرب نعم، ولكنّي أفهم ما يقع.
فقبل أيّام قليلة، خلال إحدى سهرات رمضان بالمدينة، وقعت حادثة وضعت المكان مثل كثير من الأمكنة، تحت وطأة الفوضى وهراواتِ مُنساقين في تيّار التعصّب الدّينيّ.
صار الخوف منتشرا في أرجاء بنزرت، فلا
أمان حتّى في أشدّ الأماكن أمنا... دنّس
بعضهم أرض الجلاء بعصيّ وسيوف وسكاكين... وحلّ الإجرام وحلّت الفوضى في غياب
الاحترام.
ليلتها تملّكني الغضب والغيرة على أرض نضت
عنها الاستعمار لتعود إليه بشكله الجديد بعد سنين طويلة تميّزت فيها أرض الجلاء
بالتّسامح الدّينيّ والحرّيّة والكرامة،
وفهمت حينها كم أصاب الجهل من عقول
وأفقدها صوابها كي تتصرّف باسم الدّين وعن عمى في البصيرة فلا ترى قيمة التّسامح،
ولا تسعى إليها...
وعرفت
أنّ أرض الجلاء وفيّة لمبدأ الجلاء... فقد جلت حتّى الأمن والأمان عنها...
وتعلّمت أكثر أن أنحنيَ إكبارا لأرض مشى
عليها جدّي بسلاحه لجلاء الاستعمار ومشى عليها أبي فخرا بانتمائه إليها. رحمهما
الله ما دريا أنّهما تركاها نهب المتعصّبين الجهلة.
شكرا لكلّ من حمل خنجرا غرسه في أرض
التّسامح والجلاء... فقد
أدمى قلبي وشوّه انتمائي... وآه يا بنزرت كيف هُنت على من عَرفك ومن لم يعرفك. آه
يا أرض الجلاء يا من صارت طرقاتك غريبة عن خطواتي فيك وإليك من أوّل القنال إلى
شواطئ الصّخور وإلى أقصى جبل النّاظور... وإلى آخر نقطة من آخر الأفق المحدّد
لاتّجاهاتك. آه...
مثل سيف يمزّقني يا أرض الجلاء كما مزّقتك الفتن بعد أن تآخى فوق أرضك المسلم
والمسيحيّ واليهوديّ... يا أرضا عشنا فوقها أحرارا.
وهيبة قويّة
بنزرت: مشهد للحصن الإسباني و"القصيبة"
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
التّعليق يظهر بعد مراجعته. شكرا