الوجع النّسيان،
الوجع البركان والنّيران، الوجع أكوام تحطّ
على كتفيّ، على ظهري، على كلّ مفاصلي... أحاول ألّا أعير الوجع اهتماما ولكنّه
يلاحقني ويعكّر صفو حياتي.
فالدّيك حين لا يجد
نملا ينقره ينقر حنجرتي فأفقد صوتي، أو ينقر ذاكرتي فيُحدث فيها ثقوبا حتّى أنّ
بعض الأفكار صارت ممزّقة وأشلاء لا يفهمها أحد حين أذكرها. إذ تصير الجمل غير
تامّة والكلام لا ينتهي إلى معنى يفهمه مَن حولي. ولاحظ أولادي ذلك وصاروا
يمازحونني:
«قولي جملة مفيدة
لنساعدك... يبدو أنّك ستفقدين ذاكرة الكلام، مسكينة أنت يا أمّي. أولادك لا
يفهمونك فكيف سيفهمك التلاميذ؟»
التّلاميذ؟! عرفت
الآن لماذا لا يشاركون في الدّرس ويفضّلون أن أكتبه على السبّورة وينقلون دون أدنى
مجهود. وفهمت لماذا أعيدُ الجمل مرّات، وأغيّر الأنشطة مرّات ومرّات ولا أجد لهم
اجتهادا أو عملا، ولماذا أسأل ولا أجد جوابا. وفهمت خاصّة لماذا لا ينجز التّلاميذ
أعمالهم ويأتون مكرهين إلى الدّرس يجرّون أرجلهم تحت وطأة وزن الكتب على ظهورهم،
أو يأتون خِفافا حين تعوّض الكرة الكتب والكراريس في المحفظة.
سأعذرهم بعد أن فهمت
حالتي. فما ذنبهم وهم لا يفهمون نصف ما أقول أو أكثر، وينسون الكتابة والقراءة،
وينسون حتّى حروف أسمائهم. طبعا أقصد عددا منهم لا كلّهم، فعدد آخر من التّلاميذ
يفهمون ويعملون ويحاولون التّفوّق. ووجودهم سيعينني على معرفة ما ذاب من ذاكرتي.
أعذرهم خاصّة حين
صرت لا أراهم إذا نظرت إليهم.
نعم أحيانا لا
أراهم. فالرؤية مَلَكَة مثل الكلام. ومن ينسى نصف الكلام يمكن ألّا يرى نصف ما
ينظر إليه أو كلّه.
في المرّة الأولى
ظننت أنّني أحلم، فبعد كتابة جملة على السبّورة التفتّ لأطلب من أحد التّلاميذ
القراءة فلم أجد أحدا. قلت في نفسي:
«كيف يخرجون دفعة
واحدة دون إحداث فوضى؟ هذا ليس من عاداتهم! وهل دقّ جرس الخروج ولم أسمعه؟ ربّما، فقد
لا نسمع نصف الأصوات أو كلّها.»
بقيت أنظر في الفراغ
لا أدرك ما حصل، أتساءل كم استغرقتُ من الوقت لكتابة الجملة؟ هل صرت بطيئة الحركة في
الكتابة على السبّورة إلى درجة أن أكتب جملة واحدة في كلّ هذه المدّة؟ هذا ممكن
ولكن هل خرج التّلاميذ وأخذوا معهم مقاعدهم؟
طال استغرابي أمام
الفراغ، ثمّ بدأت بعض الأجسام تظهر شيئا فشيئا كابتسامة القطّ في بلاد العجائب.
وأخذت أصوات كثيرة تتدافع إلى سمعي. لم أكن أحلم... ولم أفهم ما حصل، فهل يوجد عمى
التّلاميذ كما عمى الألوان؟!
في مرّة أخرى، رأيت
أجساما بلا رؤوس وواصلت العمل كأنّني أراهم في كامل صورهم بلا نقصان ولا زيادة. لم
أكن أريد أن يعرفوا ما يحدث لي حتّى لا يختلّ سير الدّرس مع أنّه اختلّ لأنّني
خلطت أسماء التّلاميذ، إذ كنت أشير إلى واحد منهم وأسمّيه باسم تلميذ آخر إذ نسيت
نصف نبرات أصواتهم. وتكرّر الأمر مرّات ولم أجد له تفسيرا سوى أنّهم يفرّون من
الدّرس الّذي يَثقُل على وقتهم وفهمهم وأنّهم يختبئون بفعل طاقية إخفاء. وكم
تساءلت كيف حصلوا عليها! وتمنّيت لو أملك مثلها لأختفي بدوري حين يشتدّ وجع مفاصلي
وحين تتكهرب يدي وأنا أكتب وحين ينبعث التّنّين في دمي وفي حالات أخرى لا أريد
ذكرها.
وهيبة قويّة
مقطع من: أنا بخير