بعض النّصوص تعلق بقلوبنا منذ أوّل قراءة لها، ليس لأنّنا نعرف
أصحابها ولكن لتماسك بنائها أو لفكرتها أو لمعناها، وبعض النّصوص نودّ لو كتبناها
فنجد أنّ أصدقاءنا كتبوها عنّا. فتصبح
قريبة أكثر منّا وإن كانت بسيطة اللّفظ. كفانا أنّها تحمل شيئا من فكرنا ومن
نفوسنا.
ضاع المنديل المزركش: أشواق مليباري
قرأت النصّ مشفوعا بقراءة الأساتذة المتميّزين، وأسعدني أن أجد العناية بنصّ الصّديقة أشواق. وأعدت القراءة على ضوء التّعاليق ولست أضيف كثيرا إلاّ ما يخصّ بناء النصّ لأنّه قد يفسّر ما لوحظ من قفزات زمنيّة، وأنظر في بعض الاستعمالات اللّغويّة، وأتوقّف قليلا عند عتبة العنوان، وأمّا المعنى فأرى فيه طفولة وبراءة عشتُها مع حيوانات وديعة ما اقتربت منها إلاّ لأراها ولم أملك الشّجاعة إلى اليوم للمسها ولذلك لا يمكنني أن أصفها بإتقان كما قرأت في نصّ الأستاذة أشواق.
_ النصّ قائم، كما أراه، على زمنين. حاضر نعيشه مع فرحة الأطفال بحمل أبيض وديع. (كانت تحمله... إلى الجزّار) وماض عاشته الطّفلة منذ سنوات ظلّ عالقا في ذاكرتها ووجد فرصة ليطفوَ على سطح الذّاكرة برؤية الحمل الأبيض. (في ربيعها الثاني عشر.. لتعود من جديد إلى حاضر واقع في بقيّة النّصّ.
وقد مهّدت الكاتبة لاسترجاع الصور القديمة بصورة الحملين (حملان... جنبا إلى جنب) في تضادّ لونيهما وفي تكامل العلاقة بينهما فكأنّهما روح واحدة سكنت جسدين لا تصحّ بها حياة واحد منهما دون الآخر.
في بداية النصّ، كانت القفزة الزّمنيّة الأولى:الجدة قادمة إلى المكان، في جملة اسميّة تُعلّق السّرد إلى حين وتعطّله لنتابع الحركة الإنسانيّة الّتي تواجه صَدّ العلاقة بين الحيوانين: الحمل وأمّه. إذْ كان لا بدّ أن نجد محاولة لسدّ النّقص الحاصل في العلاقة بالفعل وشفعته الكاتبة بتفسير قد لا يُقنع الكبار ولكن للصّغار رأي حوله ويجدون الاقتناع في حجّة امتناع الأمّ بسبب آلام الولادة، بل القناعة بأنّها الحجّة الدّامغة. وهكذا نتبيّن أنّ تفكير" البنت" كبيرةً وأمًّا لم ينفصل عن منطق "البنت" صغيرةً. ويأتي باقي النصّ بتعليل قد يقنع الكبار، فالبنت قد عاشت تجربة مريرة مع حمل ربّته ومات صديقه عندما انفصل عنه لأجل شعائر العيد.
تفكير البنت في الحيوان لم ينضج حتّى وهي كبيرة، فالحيوان هو الحيوان في أعماق نفسها.
كما تميّز الجزء الأوّل من النصّ بغياب الرّابط اللّغويّ بين الجمل، فمنطق الأحداث السّرعة وهي تفسّر شغف الأطفال بالحمل ومتابعته في فوضى مشاعرهم البسيطة الصّافية تجاه هذا الكائن الصّغير في أيّامه الأولى. فغياب الرّبط أنتج ما يشبه التفكّك ولكنّه ساعد في فهم نفوس الصّغار في علاقتهم بالحمل الصّغير.
ولمّا استعادت البطلة صورة الحملين، حلّ الماضي البعيد وغلب على السّرد، وبدأت قصّة أشبه بالمضمّنة، بل قصّة حجّة على نوع العلاقات بين البشر والحيوان والحيوان فيما بينه، هي قصّة الحملين وعلاقة البنت بهما منذ الولادة وحتى ذبح الأوّل وموت الثّاني وتغيير ملامح المكان. هذا المكان الّذي رأيناه مع الكاتبة في وصفها: هناك... صار واضح المعالم: أشجار واخضرار وحظيرة وبيت وعلاقة رائعة وخيبة. وحيث حلّت الخيبة لاح الأمل، هكذا الحياة في تواصل... مات حملان وهذا حمل آخر. وكبرت البنت وصار لها أطفال وحلّت السّعادة ودارت الأيّام دورتها ولا تزال تدور بولادة الحمل وبتعلّق الأطفال به بإصرارها في قرارة نفسها أن لا تقدّمه إلى سكّين الجزّار. ممّا يشير إلى تواصل بين الزّمنين ماضيه وحاضره في نفس البطلة.
وفي أخر النصّ قفزة زمنيّة أخرى، إذْ تعود بنا السّاردة إلى الحاضر الواقع وقد كبرت البنت وأنجبت أطفالا "جدّدوا الأمل". وأرى الحمل أيضا تجديد للأمل في علاقة متواصلة مع الحيوان ولكنّ بقراراتها هي لا بقرارات والدها. وهذا ما يظهر بنية متكاملة لا تفكّك فيها إلاّ بما أوحاه من تمزّق في نفس البنت منذ ذُبح الحمل الّذي ربّته، وإنّما هي بنية في تواصل متين مع النصّ متكاملة مع المعنى.
_ وأمّا العنوان، فقد ظهر في النصّ في وصف البنت وكان واحدا من لوازمها لا ينفصل عن صورتها وهي تطعم الحملين وتسقيهما وتعتني بهما. كما ظهر في آخره ممّا يعيدنا إلى بدايات النصّ كما في كلّ القصص القصيرة. فحين نظنّ أنّنا فهمنا نعود على البدء نبحث عن سرّ النّهاية. ولم يكن المنديل المزركش الضّائع إلاّ لحظات من حياة تدور بالإنسان دورتها فتضيع ونستعيدها بما حولنا من الألوان ومن سعادة مرسومة على وجوه من نحبّ (الأطفال وفرحتهم بالحمل الأبيض). وصار ضياع المنديل المزركش ضياعا لفترة جميلة تفسّر العلاقة القائمة بين البنت وبين الحيوان. والخاتمة تبشّر باستعادته في صورة جديدة مع الحمل الأبيض.
ـ وأمّا اللّغة، فقد كانت لا تَكلّف فيها. بل انسجمت مع بساطة البنت ومع علاقتها بالحملين، منسابة مع فرحة الأطفال وإسراع الجدّة بقنّينة الحليب وفرحة الحمل بخطواته الأولى في المرعى. هي لغة استطاعت أن تصف الحالة النّفسيّة الّتي أزّمت البنت، في "سذاجة" بنت تتعلّق بكلّ براءة الطّفولة بحيوان، وفي انسجامها مع طبيعة تحبّها وتستند إليها جميلة غنّاء فتلاقي فيها راحتها حتّى اختلطت في ألوانها بلون الكرز على منديلها المزركش: رمز لجمال طفولة تعيش داخلها بلطفها وعنفها، بوداعتها وفظاعة بعض ذكرياتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
التّعليق يظهر بعد مراجعته. شكرا