مقدّمة:
~~~~~
استوقف العمل لحظة من لحظات التحدّي البشريّ... وقد اخترقت هذه اللّحظة مشاعرنا
ونفذت إلى أعماق الإنسان فينا...
وقد اخترقتني
وذكّرتني بصديقة مكفوفة البصر درست معي في الجامعة، كما أعادت إليّ اجتهاد طفلة
فاقدة السّمع والنّطق أصبحت اليوم مدرّسة في مدرسة للمعوقين... كانت صديقتي
الصّغيرة، الّتي احترمت عزمها دائما لأنّها علّمتني كيف يتحدّى الإنسان العراقيل.
وكم حاولتْ
أن تعلّمني لغتها، وإن لم أتعلّمها، فقد وجدت معها أسلوب تواصل، ما زال يضحكنا
كلّما التقينا.
صورة العنوان على شريط أهل العزم |
سجّلتُ ما استطاعت حواسّي أن تنطق به لفظا عندما شاهدت
الفيديو، واللّغة قد قصرت عن ذكر الكثير من الانفعالات ولم تدرك التّعابير المناسبة
الّتي تترجم بها التّفاعل الحقيقيّ بعضه فما بالك بكلّه.
قراءة الشّريط:
~~~~~~~
جينيريك البداية:
***
يطالعنا شفق
تشوبه حمرة مذهّبة تسقط ظلالها على مياه بحر ممتدّ تعانقه الألوان والأشكال
الملقاة على سطحه الهادئ... فتستميلنا الصّورة بجمالها... ولماّ نميل إليها نريد ملء
عيوننا بدفء ألوانها، تشدّ أسماعنا موسيقى أهدأ من مياه البحر أنغامها، منسابة
انسياب مياهه عندما تلاطفها نسمات صيفيّة، وكأنّها تريد أن تأخذنا معها إلى حلم
جميل نستعذب فيه المشهد بأنظارنا فنغرقها ألوانا... ونستعذب فيها الموسيقى بأسماعنا
فنطرب ونملأ الآذان ألحانا...
اللّقطة الأخيرة من الجينيريك، إخراج طارق الحايك |
ولكن، في
غمرةٍ من الاستكانة الّتي بعثتها الأصوات، وفي هدأة النّفوس مع الألوان في رحلتها مع
الشّمس منذ شروقها إلى غروبها، يصطخب كيان الإنسان في غياب اللّون عن العيون وفي
صمت الأصوات من حوله... ونستطلع ما وراء العزم، بعزيمة الإنسانيّة الّتي تُشبعنا
بصخب المشاعر النّبيلة منذ المعطى الأوّل في الشّريط...
في تقابل الصّورة والموسيقى مع بداية الشّريط، نجد تدفّق المعنى الإنسانيّ كما نجد
تقابل الصّوت بالصّمت وتقابل الألوان بالعتمة واحتجاب كلّ منهما عن كيان إنسانيّ
شبيه الظاهر بنا عميق في ظهوره علينا... ويختفي ما ببواطننا من الكلام لنصمت بكلّ خشوع الصّمت
ونلوّن مشاعرنا بألوان الذّات وفي غياب الألوان...
هذا شكل بداية العمل... قراءة في ظاهر الشّريط تقدّم صورة متناغمة مع فوضى الحواسّ
وانقلابها عند كائن مفرد، وتحدث فوضى في الحواسّ المتناغمة عند كلّ الكائنات.
محتوى الشّريط : في معنى أن نتكلّم عن لغة الصّمت
*******
ينفتح الشّريط بمشهد من حياة خاصّة... خاصّة جدّا.. رجل
يعود إلى بيته... صورة متكرّرة يعرفها الجميع، ولكن... في نفس اللّحظة الّتي نلمس
فيها ألفة المشهد في حياتنا بلون من الحياة العادي، نجد الرجل غير مدرك للصّورة وما
إن يلامس كتف زوجته حتّى يفاجئنا كلامٌ صمتٌ... الزّوجة ترسم على كفّ زوجها الكلام
الّذي لا يسمعه... إعاقة مركّبة. سنجد تفسير أسبابها في الشّريط. ولكن لم تعد هذه
المعلومات مهمّة...
الرفيقة تقرأ الكتاب على مسامع يد رفيقها بأصابعها: لغة اللّمس |
سنجد أنفسنا لا نتابع الإعاقة من حيث أسبابها وإنّما باعتبار
أنّها ترصد الحركة الإنسانيّة النّبيلة وتوقفها لنتأمّلها. ونسأل: كيف يسمع بكفّه؟ وكيف يرى بغير
البصر؟ وكيف يعيش وسط أهله؟... أسئلة تعصف بالأفكار بكلّ سرعة... تجوب العقل
والأحاسيس وتهزّ الكيان وتقعده في وقت قياسيّ... هكذا يتحوّل الشّريط من حالة
إنسانيّة "غريبة" إلى حركة إنسانيّة سامية فريدة.
نبتعد عن الزّوجة فنجد الأبناء، في مشهد اختزل عاطفة الأبوّة في لحظات، واحتشدت فيه المشاعر حتّى أنّي أشكّ أنّه يمكن أن ننساها.
انظروا إلى البنت الصّغرى كيف تحدّثه ويحدّثها... لحظات حميميّة يقف لها العالم تمجدا وتخليدا في عصر بدأ يفقد القدرة على التّواصل مع أسوياء السّمع والبصر، وغامت فيه أساليب الخطاب بين مختلف فئات مجتمعه. واستمعوا إليه يخاطب ابنته الكبرى بلوح خشبيّ بسيط شكله ناجع في تبليغ لغة الكلام المتعطّلة في السّمع.
بصر المشاعر تجاه الأبناء حادّ... |
وها هو وحده يسير بيسر بين الغرف وينتقل في بيته دون عناء ودون إعانة من
مبصر.
مفردات البيت تكسب الثّقة في النّفس |
الإعاقة حاصلة في البصر قبل السّمع وعلاج السّمع ممكن، ولكن ما بين الإعاقة والعلاج
زمن لا بدّ أن يحياه كريما فكانت حياته حياة الكرام بل العظام.
اعتمد على نفسه في كلّ شيء، وخلق لحياته محرّكات تيسير لخطوه وعلاقته مع أطفاله
وزوجته والبائع في متجره... قد لا نجد في ما عرفناه عن فاقدي البصر جديدا. خاصّة
لمن عرف أشخاصا فاقدي البصر ورأى فيهم من القدرة على التعامل مع الفضاء والأشخاص
من حولهم.
هذا صحيح، لا جديد، والأمثلة كثيرة. فهذا "المعرّي"، وهذا "بشّاربن برد" وذاك "طه
حسين"... بل إنّك لتطالع أسماء كثيرة من هؤلاء المكفوفين أمثال "السيّد مكّاوي"، و"أندريا
بوتشيلّلي"، و"لويس برايل"، و"راي تشارلز"، و"ستيفي ووندر"، والقائمة تطول... وفي حياتنا
الخاصّة لا بدّ أنّنا عرفنا نموذجا أو أكثر... عرفنا أيضا أنّهم يعوّضون
فقدان البصر بعصا بيضاء تدلّ عليهم. واللّافت أنّهم يتمكّنون من تطوير حاسّة
السّمع لديهم فينسّقون العالم من حولهم بحسب هذا الإدراك الجديد وحسن توظيف حاسّة
السّمع.
وأين هذا المكفوف من السّمع؟ فقد حرم السّمع أيضا.
رأيت فيه "هيلين كيلر" ثانية، وقد كانت مثل صاحبنا مزدوجة الإعاقة ولكنّها صارت قدوة
ومثالا للإرادة والعزيمة والإصرار والتّحدّي... هي إحدى رموز الإرادة الإنسانية،
فقد كانت فاقدة السمع والبصر، واستطاعت أن تتغلّب على إعاقتها حتّى لقّبت بالمعجزة
الإنسانية. إذ صارت أديبة ومحاضرة في وقتها (مواليد 27 يونيو 1880م/ يونيو 1968م). بل قد تجاوزت حتّى الأصحّاء إذْ درست النّحو
وآداب اللّغة الإنجليزية، كما درست اللّغة الألمانيّة والفرنسيّة واللاّتينية
واليونانيّة. وحصلت على شهادة الدكتوراه في العلوم والدكتوراه في الفلسفة. ومارست
النّشاط السّياسيّ فقامت في الثلاثينات بجولات متكرّرة في مختلف أرجاء العالم في
رحلة دعائية لصالح المعوقين للحديث عنهم وجمع الأموال اللاّزمة لمساعدتهم، كما عملت
على إنشاء كليّة لتعليم المعوقين وتأهيلهم، وراحت الدّرجات الفخريّة والأوسمة تتدفّق
عليها من مختلف البلدان.
القراءة بطريقة برايل |
ذاك نموذج غربيّ في زمن مضى، وهذا نموذج عربيّ في زمن الحاضر، نموذج
يتحدّى كلّ ما فيه وما حوله من معوّقات ليكون متميّزا... وها هو يتميّز.
فدراسته مستمرّة وأحلامه قائمة الذّات تصطبغ بألوان الورود وتتغنّى بالألحان
الشجيّة لتقهر الصّمت وجفاء الألوان في عزم وفي تحدّ كبيرين... تنضاف إليها ألوان
المستقبل الّذي تريده ابنته... قد غرس بذرة الأمل في قلوب من حوله... وياله من أمل.
مع ابنته في حديقة: حين تصير الطّفولة ناقلا للأصوات والألوان |
صورة جميلة ينتهي بها الشّريط: التّواصل الرّائع بين الأجيال... هو الدّرس
الّذي لا نقدر أن نتغافل عنه. فمنذ بداية الشّريط ونحن في تعلّم منهج التّواصل
السّليم... مع الذّات، فنجدها في توافق جميل مع ذاتها... ومع الآخر، تواصل عجيب فيه
يتعلّم السويّ لغة المعوق ويتبادل أطراف الحوار صامتا سامعا في ذات الوقت... ومتفاعلا مع
المشاعر النّبيلة. وها نحن نتعلّم "بيداغوجيا التّواصل" بمثال حيّ.
بل يعلّمنا الشّريط أن لا نحبس هذه المشاعر الّتي ننسى أن نظهرها في زحمة الحياة.
كيف نميّز تناسق
العالم من حولنا عندما تحدث الفوضى؟ يكاد جمال نبل اللّحظة الإنسانيّة أن يأخذنا
إلى عالم سحريّ يمكننا أن نجد فيه كلّ الألوان والألحان... ونجد فيه أنّ الحواسّ
ليست هي مدخل الإبداع ومنبع العزم، الوحيدة، وإنّما تلك الرّوح الخفيّة فينا هي الّتي تنظّم
الحواسّ وتوزّع وظائفها، فنسمع بأكفّنا ونرى بأناملنا ونتكلّم بالصّمت...
الصّمت الخلاّق بين الأب وابنته |
جينيريك نهاية الشّريط:
******
موسيقى الختام فيها شجن
أليم، ولولا تسارع النّغم في آخر الشّريط لقلت إنّ مخرج الشّريط يضع نقطة نهاية في غير
موضعها...
تسارع النّغم، وهو نغم الأمل الّذي يعلّل النّفوس بأنّ بطلنا له في
الدّنيا أمل قد يتحقّق... وعودة الألوان الأولى تلميح بأنّ السّمع قد يعود وأنّ
البصر قد يتسلّل إلى العيون الّتي جفتها الأضواء والألوان.
يا لهذه الإعاقة الّتي نجدها في كثير من الأسوياء...
صورة من جينيريك الختام |
كلمة ختام:
~~~~~
ما يحضرني الآن في مثل هؤلاء الأصحّاء العاجزين هو قول بشّار بن برد:
أعمى يقود
بصيرا لا أبا لَكُمُ *** قد ضلّ من كانت العميانُ تهديه
وأرجو أن تقودنا البصائر البصيرة إلى ما فيه الخير.
كلمة شكـــر وتقدير:
~~~~~~~~~~~
شكرا لصاحب الشّريط ومخرجه، الصّحفي والإعلاميّ طارق الحايك من الأردن.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
شريط أهل العـــزم:
~~~~~~~~~~
شريط وثائقيّ، وهو مشروع
تخرّج في قسم الإذاعة والتلفزيون بجامعة اليرموك يروي حكاية رجل يعاني من إعاقة
مزدوجة في السّمع والبصر ولديه من العزيمة والموهبة ما لا يملكه كثير ممّن يتمتّعون
بسلامة حواسّهم كاملة ولديه عائلة يعيش معها بسعادة لا تتوفّر للكثيرين؛؛؛ / طارق الحايك
سيناريو وإخراج طارق الحايك
(طارق الحايك)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
التّعليق يظهر بعد مراجعته. شكرا