ليلة العيــــد
كنت، إلى عيد غير بعيد، أظنّ أنّ فرحة
العيد يعيشها الأطفال أكثر، لأنّني منذ كبرت لم أعد أرى ضرورة لشراء ملابس عيد أو
حذاءً جديدا للمناسبة. كما أنّه لا داعي للتفكير بـ"مهبة العيد"[1].
لم يكن يعنيني من أمر العيد كلّ هذه المظاهر، وظننت أنّ العيد فرصة للصّغار فقط
للباس الجديد واللّعب والاحتفال. وأمّا الكبار مثلي فيكفيهم أن يستشعروا عظمة الله
في زرع الفرحة بالعيد في القلوب المؤمنة الّتي استجابت لأمره بالطّاعة، وأن
يلامسوا ملامح السّعادة على وجوه الأطفال من حولهم وهو يتمتّعون بمباهج العيد.
اللّيلة وجدتُ الأمر مختلفا، وعرفت أنّ
العيد يأتي للكبار وللصّغار معا. وأقصد لذّة اللّعب واللّبس والتّمتّع بالحلوى
وغيرها من الأشياء الجميلة البسيطة الّتي تُفرح قلوبنا عندما نرى الأطفال يتمتّعون
بها. استشعرت هذه الفرحة اللّيلة من حادثة بسيطة عادت بي إلى زمن الطّفولة وفرحة
العيد السّابقة. وأعادني إلى الطفولة صوت طبل ليلة العيد.
فقد زار حيّنا اللّيلة"بوطبيلة"[2]
، استغرب أطفالي مجيئه في غير موعده ورفضوا الخروج إليه كما تعوّدوا في اللّيالي
السّابقة. قالوا:"غدا العيد، فلِمَ يأتينا اللّيلة؟ هل سنتسحّر منذ الآن؟"
أطفالي لا يعرفون مثل هذه العادة الجميلة
الّتي يتمّ فيها إعلان العيد في بعض المدن والقرى الّتي ليس لها مدفع لإعلان رمضان
أو الإفطار كلّ ليلة أو لإعلان العيد. فمنذ سنوات غابت هذه العادة لتعود إلينا
اللّيلة. ودفعني الفضول إلى الخروج.
"بوطبيلة" بطبله يقرعه بفرح
ويردّد أغنية تعلن نهاية رمضان ويبشّر بهلال العيد، وحوله مجموعة من الأطفال خرجوا
يعلنون الفرح في كلّ "الحومة"[3]
والأماكن القريبة منها.
كثير من الجيران خرجوا مثلي، وبعضهم
هنّأ"بوطبيلة" وقدّم له"مهبة العيد".
كان غناؤه يملأ الفضاء، وتأسّفت أنّني لا أعرف الكلمات، بل لم أحفظها يوما. هي أغنية
مختلفة عن أغنية السّحور. أغنية السّحور أيضا لم أكن أحفظها ولم أفكّر يوما في
حفظها.
كنت وأنا صغيرة أختبئ إذا سمعت صوت الطّبل
في أواخر اللّيل. كنت رغم معرفتي بحكاية "بوطبيلة" وأنّه يطوف الشّوارع
ليوقظ النّاس في موعد محدّد لأجل السّحور، وأنّه صار من السّنن الّتي يحافظ عليها
كلّ الكبار، أخاف أن أسمع الطّبل وأتصوّر أنّ هنالك ماردا يخرج من قمقم من مكان ما
لا أعرفه ليخيف النّاس. لم أخبر يوما أحدا بما كان ينتابني من خوف عند مروره، فقط
يعلم كلّ أطفال العائلة أنّني الوحيدة الّتي لا تخرج إلى"بوطبيلة" ولا
مجال لهم لمعرفة السبب لأنّهم يتسارعون للخروج فينسون الأمر. ومن سيسأل وقد كان الخروج في ذلك الوقت امتحانَ
شجاعة من جهة وفرصة لرؤية صاحب الطّبل الّذي لا يملّ الشّوارعَ سَحَرًا وتعرفه
حتّى حجارة الطّريق في كلّ المدينة.
كبرت ولم أعد أسمع صوت الطّبل. بل صار هو وصاحبه من ذكرياتي مع الأصدقاء. تركناه جميعا في فترة الجامعة في مدننا الصغيرة
وعشنا في ضوضاء العاصمة معتمدين على أنفسنا في تحديد وقت السّحور.
غير أنّ ما تنقشه الذّاكرة في الصّغر لا
يمّحي ولا بدّ أن يطفو على سطح أفكارنا ويبدو عميقا في نفوسنا شديد الأثر فينا.
سمعت "بوطبيلة" من جديد. وصرت أتندّر بما فعلته في الصغر، بل ندمت أنّني
لم أرَ وجه هذا الرّجل الغريب ولم أحاول
معرفة من يكون. أسمعه كلّ ليلة من ليالي رمضان يؤنس بصوت طبله وصوته وحشةَ
اللّيالي الباردة والشّوارع الفارغة.
صارت مواعيد رمضان كما في سنوات صغري
صيفا. و عدت أسمع الطّبل يعلن مع صوت صاحبه عن موعد السّحور. وصرت أدفع أولادي ليخرجوا إليه وليغنّوا معه
تشجيعا لهم في الظّاهر على اللّعب والمرح، وفي حقيقة الأمر كنت أريد التخلّص من
خوفي القديم. صرت أخرج معهم أحيانا. وكم مرّة تساءلت كيف له أن لا يملّ الطّواف
بالشّوارع مغنّيا للنّيام. وكيف أنّه في هذا العصر الّذي تعدّدت وسائله في إيقاظ
النّائم يُصرّ على أن يحمل طبله.
ليس لاستغرابي مبرّر. هو لا يوقظ الكبار.
هو يجوب الأحياء والشّوارع ليوقظ الصّغار. ينادي كلّ صغير باسمه. حتّى توأمي صار
ضمن قائمة " بوطبيلة" وصار لكلّ من الولدين اسم في أغنيته. وصرت أنتظر
كلّ ليلة مع أولادي مروره لنسمع أغنيته وطبله يؤنس به شارعنا:
"سيدي رمضان يا ما احلى أيّامه
يا ويح من فطره ويا سعد من صامه"...
وبعدها يحمدل ويصلعم وينادي الأطفال. لا
يملّ هو ولا نسأم نحن من مروره، وصرت أستأنس بصوته يمرّ من أمام البيت.
أَبْكَرَ موعدَه اللّيلة وكان غناؤه
مختلفا. جاء ليجمع الأطفال في جولةِ ليلةِ العيد، وجعلني أتذكّر ما كان من ذكريات
رمضان، تمرّ وَميضا عبر ذاكرةٍ تأبى النّسيان ولكنّها تنتقي اللّحظة الّتي تقف
عندها وتُشعرني بالفرح أكثر.
وأعلن"بوطبيلة " العيد وطاف
بالشارع. وقدّم له أهل الحيّ ما استطاعوه من "مهبة"، و" كلّ شيء
بالبركة"، وانطلقت التّهاني" سنين دايمة"، "سعدك يا صايم سيدي
رمضان"، "ربّي يحييك لأمثاله"...
امتلأ الشّارع فَرَحًا، ونام الأطفال
مطمئنّين أنّهم سيُفيقون للعيد وأنّ ثيابهم الجديدة وأحذيتهم في انتظار فرحتهم.
ناموا وهم يعدّون الأيّام الّتي صاموها. مؤمنين أنّ امتحان الصّيام كان رائعا.
وأنّ هذه التّجربة ستمكّنهم من طاعة الله بأداء فرض الصّيام في السّنوات القادمة.
أدام الله أعيادنا بالخير واليمن
والبركات. وأدام أفراحنا.
أمّا أنا فلم أنم، تلك الطّفلة السّاكنة
فيّ تريد أن تستمتع بكلّ تفاصيل اللّيلة تنتظر الفجر وترهف سمعها حتّى لا تفوتها
تكبيرات العيد تنبعث من المسجد. وتغمض عينيها لترى صورتها في ثياب العيد الجديدة.
تنتظر دخول والدها من صلاة العيد بجبّته وعطر العيد يفوح منه لتكون أوّل من
تقبّله. رحمك الله أبي، أنت منقوش في القلب، لن تكون عندي ذكرى جميلة، لأنّك أنت
مصدر الجمال في نفسي وتعيش معي لا تفارقني.
أبي، كنت أرى فرحة العيد في كلّ تفاصيل
وجهك وفي ابتسامتك وفي صوتك وفي كلّ حركة تصدرها وفي كلّ السّكون الّذي يحيط بك...
كان عليّ أن لا أسأل أبدا عمّن يعيش فرحة العيد أكثر، الأطفال أم الكبار؟ كنتَ
تَفرح في العيد وتُفرحنا معك، وكنت تأتينا بالعيد حتّى في غير أوانه ومن غير طبل
نسمعه في هدأة ليالي رمضان، أو ليلة العيد. كنتَ عيدي أبي.
وهيبة قويّة، في ليلة العيد 9/2/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
التّعليق يظهر بعد مراجعته. شكرا