7 يوليو 2011

كبُرتُ أمّي...




تتقدّم بها سنوات العمر وتتقدّم بي ولكنّي لا أكبر،وإنّما يكبر ما بالقلب من الحبّ لها.

آه! كم أحتاج أن أكبر بين يديكِ حتّى يتّسع صدري لكلّ ما فيه من الحبّ لك أمّي! كم أشعر بقصر قامتي أمامك، وبصغر حجمي! أتضاءل وأكاد أتلاشى كلّما غمرتِني بحبّك، وكلّما جلست إلى جوارك نتلو الحاضر والماضي والأحداث وتعاقب السّنوات على عُمرَيْنا... وكم أودّ لو تمتدّ إليّ ذراعاك لتعيدني إلى حضنك أشمّ عطرك وتعود إليّ أحلامي أخطّها صورا على فضاءات الخيال دون خجل من عمري وسنوات يعاندني مرورها وأنا البعيدة القريبة.
...جلست إلى جانبها في حديث عن الأيّام الّتي تفصلنا في كلّ غياب وتبعثنا في كلّ حضور.. تحدّثنا عن الأبناء وعن الإخوة.. عن الغائبين في بلاد الهجرة، وعن صعوبة العيش في هذا الزمان.. تحدّثنا عن أبي رحمه الله، عن سعة قلبه الّذي احتمينا به وعن فرحه وغضبه..عن مزاجه وطبعه...وترحّمنا عليه، وضحكنا... وأخذَنا الحديث بعيدا، فتحدّثنا عن الدراسة وعن السّهر بين دفّات الكتب... وعن نتائج امتحاناتي عندما كنت طالبة.

قالت بكلّ هدوء: "مع كلّ نتيجة امتحان أَلِدُكِ من جديد".
 صَمَتَتْ. ونظرتُ إليها فأردفت بنفس الهدوء: "ولدتك مرّات كثيرة. وكم دعوت لكِ وأنا أراك تنتظرين حصاد ما كنتِ تزرعينه في سماء اللّيالي الباردة!"
آه أمّي! كنت أبحث عن طريقة أجزيك بها عن ولادة واحدة؟ فكيف لي أن أجزيك عن كلّ هذه الولادات؟

غيّرتُ موضوع الحديث هربا من ثقلٍ ترزح تحته خفقاتُ قلبي. لا أذكر الموضوع الّذي تحدّثنا فيه لكن سمعت ابنتي إلى جانبي تقول لي: "أمّك تحسن الحديث في السياسة وأَعلَمُ منكِ بوضع البلاد والعباد".
نعم.. أمّي تتابع الأخبار في كلّ العالم، تعرف جغرافيّته ، وتعرف أحوال الطقس في أكثر بلدانه،
و تراقب أحوال البلدان في جزء من أروبا وآسيا وتحمد الله أنّها ليست مضطرّة إلى معرفة أحوال أمريكا ظالمة الخَلق المنتهكة للحرمات وغير الحافظة للحريّة وللإسلام... تحلّل بنفسها الوضع السّياسيّ وحتّى الاقتصاديّ وتتساءل إذا كانت الثّورة ستؤثّر في ثمن بطاقات السّفر وتخاف أن تُحرم الأمّهات من عودة أبنائهنّ من بلاد الغربة وأن يطول انتظارهنّ..." مساكين! ألا يكفيهم الغربة حتّى تستعر النار في سعر ركوب الطّائرة؟... هل تظنّين أنّ السفر بحرا أفضل؟"

فاجأني السّؤال، قلت: "هو أبطأ". قالت: "الانتظار قاتلٌ وعليّ التعوّد على هذا الظّرف الجديد. أعاد الله علينا الغائبين وحفظهم وسلّمهم حيث هم. المهمّ أن يكونوا بخير وستمرّ هذه الأيّام ويعود الخير إلى البلاد ونفرح جميعا بالعودة إلى الأهل".

تحدّثنا بعدها عن الياسمين وعن الآس وعن الفلّ وعن السوسن وعن كلّ الورود... واستفاقت الذّكرى تقودني إلى صفو الصّبا وإلى يديْ أبي رحمه الله تضع في كفّيّ حفنة من الفلّ لأوصلها إلى أمّي ويوصيني بها خيرا.

 أمّي تحبّ الورد كثيرا وغرفتها تعبق برائحة الورود البيضاء، وليس صدفة أن يستعيرالفلّ والآس والياسمين صفاء بياضه من روح أمّي؟...

والدي يحبّ الآس.  أمّي تسقيه في مواعيد محدّدة وفي الصّيف يُبعِدُ أبي تعبه بعد عمل يوم شاقّ بِقطفِ زهره وتوزيعه على البنات: "لكلّ أميرة من أميراتي زهرة آس في مثل بياضها". كنّا نشتمّها ونعيدها إليه تنازلا منّا عن طيب خاطر لنستمتع ونحن نراه يجمعها في باقة يقدّمها إلى أمّي.

ـ "هذا عقد البنات. حفظهنّ الله"...
في حين كانت هذه المشاهد تثقب اللّحظات مع أمّي وتكمل هيأة الصّورة كما في الماضي، كان الحاضر يثبت وجوده بحضور أمّي المميّز. كنت أنا فقط الحاضرة في المكان معها ولكنّ الحديث أعاد جمع لؤلؤات العقد المتناثر بالحديث والاستحضار وكأنّ أمّي تتعمّد إعادة النّظم...سبع من البنات جمعتهنّ في سلك رفيع من بديع حديثها وجميل دعائها: "أنتنّ أفضل البنات، وأحبّكنّ دون تمييز... وهذا قلبي اسأليه إن كنت أخيّر واحدة عن الأخرى". ولأتفادى الكلام عن قلبها قلت:
ـ "وأنت واسطة العقد ...رحم الله أبي. وحفظ إخوتي جميعا، فهم أيضا نجوم نستضيء بها".


وأخذت يدها أقبّلها. هي لا تحبّ أن نقبّل يدها ولا رأسها.لا أدري لمَ ترفض. قرّبت كفّها أقبّلها وأشمّها، فانبعثت من راحتها عطور الياسمين و الفلّ والآس. لم أكن أتخيّل. قرّبت راحتها من ابنتي وطلبت منها أن تميّز الرّائحة فقالت : "هي رائحة الفلّ و الياسمين". وكيف لا تتعطّر كفّاها وهي الّتي تتعطّر الأرض بعطر قدميها!

قلت لابنتي أمازحها:" أمّي أفضل من أمّك، فأمّك تحبّ الورود بأنواعها ولكنّ راحتيْ أمّي قواريرُ تختبئ فيها كلّ العطور ... هي أفضل وردة".
وصادقت ابنتي على كلامي. وقبّلت جدّتها تتعطّر بعبق راحتيها وجبينها...

تَوَاصُلٌ روحيّ جميل بين الحفيدة والجدّة، تلاه دعاء بمزيد النّجاح في دراستها.

"أرجوك أمّي لا تتحدّثي عن الدّراسة، لا أحتمل وزر عطاياك".








هناك 8 تعليقات:

  1. احترت في اختيار الكلمات المناسبة لكتابة تعليق لأنك لم تتركي لنا ما نجمل به سطورنا و نعطر به حروفها فالمشهد لا يمكن ان نعلق عليه بالحبر العادي بل بحبر يحتوي عصارة كل الورود و الأزهار التي ذكرت في المقال و غسالة كفي أمك الطيبين و لا أظن ان ذلك يرقى الى مستوى الصدق الذي كتب به .....
    " عطرك أمي يبلل روحي " مشهد صادق لواقع معاش لا يمكن ان تمر عليه عيون القاريء دون ان تعود اليه مرات و مرات و دون ان يرتعش القلب و يزيد دقات و دقات و دون ان تتمنى النفس العيش نفس المشهد ساعات و ساعات ، متأكد ان كل من يقرأ المقال تعود به الذاكرة الى أجمل لحظات الحياة أو يتمنى ان يكون له في الحياة نصيب مما كتب من فيض حنان الأم و صدق المشاعر و عمق المحبة ...
    ليس غريبا ان يكون المحتوى بهذه الروعة اي ماذا يمكن ان تكتب أم عن الأم، لن يكون الا مشهدا مشحونا بطيب الأصل و الفرع ....
    هذا رأيي و أخالف من يكتب غير ذلك و أعتبره لم يعش حنان الأم و حرصها على تحقيق النجاح لأبنائها .....
    فاللهم احفظ امهاتنا و أدم عليهن الصحة و العافية و وفقنا في كل امتحان يفرحهن و ابعد عنا كل فشل يؤلمهن ...

    ردحذف
  2. صديقي ـ تعليقك يعطّر مدوّنتي ونصّي. جميل ما بلّغته من صدق مشاعرك.
    ما أرجوه هو أن أتجاوز اللّغة الّتي مازالت تحبو وتتعـــثّر كلّما أردت الكتابة عن أمّي. وأن أتمكّنن من نقل صورتها المطبوعة في قلبي والطّابعة لملامح حياتي بأثرها الطيّب فتصل إلى كلّ النّاس كما يوجبه البرّ بها.
    من منّا لا يتنفّس الطّفولة والصّدق بين يديْ أمّه...وكم واحدا منّا أوفى حقّ من وهبتنا الحياة وفتحت لنا أصناف المعارف بطيب حديثها ولين توجيهها وحرصها أن نكون من المتميّزين,!

    ردحذف
  3. امــــــــــــــــــــــي فز شعري يوم أوصـــف غلاها هي في القـــــلب وعروق دمي هي حضنـــــي اللي حضني ودفاها وهي الكلام إلي تلعــثم بفــمي ودائما تهل بعطاها وإذا تعبت تقول روحها لي سمي روحي تفدييييـــــــــك بأحلى جزها أناديها وأقولها يا أحلى أسم يمي كلها حنـــان وطيبه يا ناس مين يعد جزاها وإذا تضايقت أقولها يا أحن قلب يمي وأقولها وأعطيها هم فوق همٍ وهمي أردد وأقول يا ناس مين يعد جزاها أفديك بروحي بس ما توصل لروحك جزاها

    ردحذف
  4. الصّديق حسام،
    كم يسعدني مرورك وكم هو رائع حديثك عن الأمّ. تظلّ الأمّ منبعا صافيا زلالا لكلّ العطر والشّعر لأنّ لغتنا أقلّ بلاغة من عظَمتها وتظلّ لغتنا تدور حول مدارها.
    دام إبداعك ورقيّ مرورك

    ردحذف
  5. لكم هو رائع اقتدارك البديع على نسج البيان الساحر سلمت يداك ودام اقتدارك

    ردحذف
  6. شكرا صديقي لمرورك الجميل. نتعلّم الجمال ممّا حولنا ونحاول أن نأخذ بزمام اللّّغة لندرك شيئا من معانيه. لغتي تحاول أن تجمع إليها أشتات ما بي من مشاعر خاصّة تجاه أمّي وتجاه الجمال أيّا كان مصدره.
    كلامك مشجّع وسأحاول دائما الأفضل

    ردحذف
  7. تحدّثنا بعدها عن الياسمين وعن الآس وعن الفلّ وعن السوسن وعن كلّ الورود...

    ردحذف
    الردود
    1. وكم يحلو الحديث عن الرّياحين مع أمّي، هي حديقة من أجل الورود ومن الياسمين والسوسن والآس والفلّ... وهي الرّبيع بكلّ عطوره والفضاء بكلّ نوره

      حذف

التّعليق يظهر بعد مراجعته. شكرا

وأنت المرايا تلمّ زوايا العطور وغير الزّوايا ***مظفّر النوّاب*** وأنت المرايا تلمّ زوايا العطور وغير الزّوايا ***مظفّر النوّاب*** وأنت المرايا تلمّ زوايا العطور وغير الزّوايا ***مظفّر النوّاب***
زاوية دافئة من القلب *** مدوّنة خاصّة *** وهيبة قويّة *** الكتابة عصير تجربة ولحظة صدق تحرّرنا من قيود تسكن داخلنا، نحرّرها، فنتنفّس. ***وهيبة قويّة

الأكثر مشاهدة هذا الشهر

مرحبا بزائر زوايانا

free counters