المطر... كما عرفته دائما
المطر... أعرفه دائما كما عرفته وأنا صغيرة. فيه
أمارس طقوسي كما يحلو لي. أعرفه... مع الأطفال في ساحات المرح البريء، نلعب
ألعابنا الّتي يوحي بها إلينا سواء في برك الماء الّتي يكوّنها ويتركها
تحت أرجلنا الصّغيرة، أو في وحل نشكّله، بأيدينا الملتحفة بالبرد، خلقا جديدا بما
يمليه فنّ الطّفولة، أوفي رائحة الأرض الّتي تشرب في انتشاء مياهها...
أعرف المطر كما عرفته دائما... في ركضي تحت خيوطه
هَرَبًا واحتماءً وسباقا مع الآخرين المارّين واللّاعبين والمتأخّرين عن أعمالهم...
أعرف
المطر كما عرفته دائما... في إسراع الأمّهات إلى حبال الغسيل مسبِّحات بحمد من فتح
أبواب السّماء بالغيث النّافع وآسفات على ما تبلّل من ثيابهنّ مُناديات على
أطفالهنّ ليدخلوا البيوت وليحتموا
من البلل...
أعرف
المطر... كما عرفته دائما، في التجائي إلى حضن أمّي باحثة عن الدّفء، وأعرفه في
كوب الينسون والشّاي بالنّعناع واجتماع العائلة... أعرفه، في "تكتكات"
إبر "التريكو" الرّتيبة بين يدي أمّي، تصنع صدارات الصّوف بحبّ لتقي
أجساد جميع من في البيت من بردٍ وبلل...
أعرف
المطر كما عرفته دائما في أسمار جدّي -رحمه الله- على بطولات بني هلال وعنترة
وسيَر الصّالحين، وأعرفه في دعاء جدّتي لنا بأن تسلم مفاصلنا من غزو برد الشّتاء
ونحن خارجون إلى المدرسة....
أعرف
المطر كما عرفته دائما... بسذاجة المرأة الممزوجة بسذاجة الطّفلة القابعة في ركن
منها ترتّب معالم ذاكرة لا تغيب... وترى المطر جليلا مهيبا حنونا دافئا....
أعرف
المطر كما عرفته دائما كريما... يحمل إليّ ذكرى من أحبّهم...
وأعرفه
إذْ ينهمر في الرّوح ويطهّر مسامّها من الغياب ويبعثه صورا حميمة دافئة. تؤنس وحدتي... فأمشي
تحت المطر في الشّوارع وأجري، ألاحق ماضيا منبعثا في إشراقة الذّاكرة والنّفس...
وأعرف
المطر كما عرفته دائما... في كره هذا أو ذاك لماء السّماء المندفع بقوّته مبلّلا
كلّ ما تحته، وقد اجتاح البلل جسده الضّعيف فلا يجد كيف يدفئه...
وأعرفه... في حلم فقير جائع مقشعرّ جسمه يحلم
بخصب الرّبيع....
في
كلّ هذا وأكثر، يظلّ المطر حبيبا إلى نفسي، يعطّر أنفاس الأرض ويعطّرني... وقد
عرفته دائما مبدعا يلقي الخصب على لسان القلم، ويُؤجّج أنوار الذّاكرة، ويشعل
أقمار الشّعر زاهية تستشرف الأرض بما فيها
ومن فيها توحي إليهم بأناشيدها الماطرة العطرة...
وأنا
أعرف المطر كما عرفته دائما... يبلّلني بعبق الحياة ويدفع النّبض إلى شراييني.
وأعرف
المطر إذْ ينهمر بسرّ الكون، وبخصبه ثمّ يطوي سحابه تحت جناحيْ برقه ورعده ويعتصر
قطراته على وجه الأرض، وتتململ أجفانه نشوى ويختفي بين الغيوم مبتسما.
أعرفه
وهو يلملم حُبيبات سرٍّ لو عرفتُه يوما
فسأستمتع أكثر بمرح الطفولة... سأتسلّل بين حبّاته وننهمر معا بسخاء على وجه الأرض
نرشف عطرها.
أنا
أعرف المطر كما عرفته دائما... إذْ مع كلّ مطر أتنفّس عطر الأرض، وتتراءى لي جداول
الماء المتجمّعة إلى أسفل الهضبة، فألاحق الصّور في ذاكرتي. وأشعر أنّي مثل فيضان
مياه الأمطار وأُغرِقُني فيها... فنتنفّس معا سرّا لا أعرفه ويخفيه عنّي المطر...
وهيبة ﭬويّة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
التّعليق يظهر بعد مراجعته. شكرا