كتاب الإيكيغاي الصّغير لــ "كين موغي" |
قراءة في "فنّ الحياة سعيدا" من خلال
"كتاب الإيكيغاي الصّغير" لـــ "كين موغي"
كنت أتصفّح قائمة كتب يابانيّة حين طلع عليّ عنوان "
كتاب الإيكيغاي الصّغير" لــ "كين موغي". الإيكيغاي، كلمة غريبة،
طبعا لأنّها يابانيّة وأنا لا أعرف اليابانيّة.
أثارني العنوان خاصّة وقد نعت الكتاب بالصّغير، (ودار
في رأسي عنوان: الأدب الصّغير والأدب الكبير لابن القفّع) فأردت معرفة الصّغير، وحدّثت
نفسي أنّي إن وجدته مسلّيا فسأبحث عن معرفة الكبير ثمّ ما هو أكبر. ما أثارني أكثر
هو العنوان الجزئيّ الطّويل تحت العنوان الكبير على كتاب صغير الحجم (86 صفحة) "الأسلوب اليابانيّ المثاليّ لمعرفة هدفك في الحياة". وبنظرة متفائلة، رأيت
أنّ الكتاب مناسب لصباح متكاسل يبحث لي عن مثير للخروج من دفء الفراش إلى برد
مفاجئ في الطّقس، ومناسب أيضا للإنفلونزا قبل مفاجآت العطاس والسّعال والحمّى. وقد
كثرت مفاجآت الكتاب منذ صفحاته الأولى ثمّ... عنوان الفصل الثاني: "سبب نهوضك
من السرير صباح كلّ يوم." أظنّ أنّ الكتاب بحث عنّي ووجدني، ابتسمت للكتاب
وكاتبه وأنهيت القراءة بسرعة، ولم أخرج من الفراش. فالكتاب من النّوع الّذي يحتاج
إلى قراءة ثانية لأستفيد تطبيقيّا بنظريّة السعادة فيه. فهذا نوع من الكتب يظهر ليسعد
القارئ لذاته قبل أن يضعه أمام أسئلة الوجود البسيطة ليجد، لا أهدافه فحسب، بل
أيضا سعادته كلّ يوم.
تحدّث "كين موغي" في كتابه " الإيكيغاي الصّغير"، عن
أساليب حياة اليابانيّين في تحقيق السعادة من خلال قواعد في ظاهرها بسيط، تتجلّى
في أبسط ما يمكن أن يفعله الإنسان خلال يومه، وهو يعرض أساليب حياة أهالي جزيرة
"العمر الطّويل" إيكيناوا اليابانيّة، ونماذج من الحياة اليوميّة
اليابانيّة المستمدّة من ثقافتهم القديمة المتوارثة منذ مئات السّنين، مثل تقاليد
شرب الشّاي واجتماع الساموراي حوله، وتقاليد ممارسي رياضة السومو، وعمل بعض
الحرفيّين... ممّا يفتح نافذة على ثقافة اليابان الّتي تكشف فلسفة الحياة عند هذا
الشّعب من خلال مظاهر تفانيه منذ القدم في "العمل"، مهما كان بسيطا، والإخلاص
له وإتقانه الذّي عزّ عند كثير من الشّعوب، أو ممارسة الحياة اليوميّة في تفاصيلها
البسيطة. فشعب اليابان مثلا لا يعرف "التقاعد" ولغته ليس فيها كلمة
"تقاعد" وأوّل ما يتعلّمه الأطفال في اليابان هو كلمة
"المثابرة" والّتي يعتبرها اليابانيون أوّل بنود السّعادة وطول العمر.
ومن هنا ظهر مبدأ "الإيكيغاي" فهي كلمة تعبّر عن أسلوب حياة
المعمّرين في جزيرة إيكيناوا باليابان. وتعني أحداث الحياة اليوميّة البسيطة، وتعني
الأهداف الكبرى أيضا. ولغة تعني "إيكي" يعيش، و"غاي" سبب.
لتدلّ على مبدأ روحيّ معناه أن يجد كلّ إنسان سببا يعيش لأجله. ويتلخّص في حسن
تقدير الحياة والحلم الّذي لأجله يعيش الإنسان وذلك بتقدير التّفاصيل الصّغيرة. ويأخذ
الكاتب مثالا لذلك، من بين أمثلة كثيرة، أنّ الّذين لا ينهضون من فراشهم صباحا لن
يجدوا الرّغبة في الحياة وعليهم البحث عن المعنى يدفعهم للنّهوض باكرا. فالإيكيغاي
إذن يلخّص حكمة
اليابانيين في الحياة المتميّزة بالرّقّة والأخلاق والأفعال المتأصّلة في المجتمع
الياباني، والّتي تطوّرت عبر مئات السّنين وجعلت اليابانييّن يعمّرون طويلا
وينعمون بالسّعادة في "إيكيناوا" خاصّة ثمّ في كلّ اليابان. ويمكن لكلّ
إنسان غير يابانيّ أيضا أن يجده.
فالإيكيغاي هو نمط حياه يوميّ يقوم على تنشيط العقل، والاستمراريّة في الانتاج، واتّباع
الشّغف لتقوية الرّغبة في الحياة، واتّباع نظام غذائيّ معيّن، والحرص على الرياضة،
والنّوم الكافي والاهتمام بالرّوح المتفائلة والابتسامة. وهو ما سيجعل كلّ شخص
ينعم بالإيكيغاي، فلكلّ شخص إيكيغاي خاصّ به.
ويفصّل "كتاب
الايكيغاي الصّغير" كيف يتوازن الإنسان في
حياته لتحقيق السّعادة. وكيف يصنع النمط الّذي يناسبه للعيش بالإجابة عن أسئلة أربعة
تهتمّ بحياته وهي:
- ماذا يحبّ؟
- ماذا يجيد؟
- ما الّذي يمنحه مكافأة/ راتب؟
- ماذا يحتاج العالم من حوله؟
ويكمن الإيكيغاي في المشترك بين هذه المسائل، لذلك على كلّ شخص يحسن
الإجابة عن هذه الأسئلة ليحصل على الإيكيغاي الخاصّ به. فإذا عرف بداية الطّريق فسيجد سعادته الخاصّة
إذا اتّبع طريقه بهذه الأركان الخمسة وهي:
1/ البدء بالأشياء
الصّغيرة.
2/ إطلاق
العنان للنّفس.
3/ التناغم
والاستدامة.
4/ متعة الأشياء
الصّغيرة.
5/ عيش اللّحظة.
ويقول
"كين موغي" في مقدّمة الكتاب عن هذه الأركان: «غالبا ما تكون هذه
الأركان مطروحة على بساط البحث والنّقاش، لأنّ كلّ ركن منها يتيح للسّعادة أن
تزدهر. والجدير بالذّكر هنا أنّ هذه الأركان ليست ذات طبيعة تبادليّة، وليست في
الوقت عينه حصريّة أو شاملة، كما أنّ لا ترتيب هرميّ لها. ولكنّ هذه الأركان
مجتمعة تكوّن مفهوما أساسيّا للسّعادة، وستكون دليلا أثناء قراءتك الصّفحات
التّالية الّتي ستؤثّر في حياتك. هذه الأركان سيكون لها على الدّوام عظيم الأهمّيّة
في الحياة»
ورغم أنّ
الكاتب اعتبر كتابه رحلة استكشاف إلاّ أنّ القارئ سيجد أنّ هذه الأركان الخمسة هي
منهج الحياة الّتي تتشبّع بها طاقة الحياة عند اليابانيين ويمكنه الاستفادة منها
في حياته الخاصّة. وهي فلسفة في ظاهرها البساطة
ولكنّها عميقة حين تصير جزءا من الحياة الّتي نحياها وحين نضع هدفنا ونمضي بثقة
الأطفال بأنّ كلّ شيء ممكن، وبأنّ كلّ ما ننجزه، مهما كان بسيطا، فإنّه يحقّق
السّعادة ويضمن الشّباب الدائم ويغيّر حياة الإنسان بشكل كامل وجذري، ويجعله ينعم
بصحّة جيّدة وأكثر سعادة ورضا ويخفّف من ضغوط حياته، إضافة إلى أنّه يجعله أكثر
إبداعا ونجاحا إذا عرف كيف يقدّر هذه الفلسفة الحياتيّة ويتعلّم كيفيّة تطبيقها فى
حياته.
هذا بإيجاز فنّ "الإيكيغاي" لـ "كين موغي" في كتاب صغير
بأفكار عملاقة.
قد ننسى أشياء كثيرة لا نقولها في تلخيص الكتب، ولكنّ الأكيد أنّنا نقول ما
يعجبنا من الكتاب. وما أعجبني هو الكلام القليل والجمل المحدّدة الّتي تحوصل فلسفة
كاملة موضوعها القواعد الخمسة لتكون سعيدا وتحافظ على شبابك وأنت تتقدّم في السنّ.
فإذا أعدنا السّؤال: كيف نحقّق سعادتنا تذكّر المثل اليابانيّ «سِرْ
ببطء وستصل بعيدا» وجملة "كين موغي" في آخر الكتاب: «أنت
لا تحتاج إلى الثّورة بل تحتاج إلى التطوّر.» نعم: التطوّر. فالسّعادة لا
تكون إلاّ باتّباع خطوات ثابتة مهما كانت قليلة تبلغ إلى التطوّر وتبعد عن
الثّورات والتوتّر "مقصّر العمر" و"ماحي السّعادة". ماذا
سنجني من ثورة تزلزل كلّ شيء وتجعلك ترى سعادتك في يد غيرك. ابتسم واشرب قهوتك وضع
هدفا بسيطا ليومك وثابر، ستخرج من فراشك حتما ولو لأجل قطعة شوكولا تركتها في الثلاّجة
أو لأجل قهوة تشارك بها أفكار كاتب يحاول أن يصف لك كيف يعيش أهل
"إيكيناوا" المعمّرين السّعداء فيدفعك إلى شريان الحياة... ببساطة، وبابتسامة.
كين موغي، يابانيّ آخر أضيفه إلى قائمة الكتّاب اليابانيين
المثيرين بأسلوبهم الشيّق البسيط الواضح العميق وكتاباتهم المنهجيّة وأحيانا
السورياليّة، ويسعدني أن أحفظ الاسم "كين موغي" مع كتّاب اليابان هاروكي
موراكامي، يوكو مشيما، ياسوناري كواباتا...
وهيبة قويّة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
التّعليق يظهر بعد مراجعته. شكرا