بأعلى الجدار الّذي أتكئ عليه نافذة صغيرة
تتعلّق بأهداب السقف، تفتح عينيها للضّوء وتعمل عمل الرّئة للمكان، وتراقب الباب
أمامها، كعين كاميرا. لا يستطيع أحد الحركة دون أن ترصده. فموقعها استراتيجيّ ما
بين ضفّتي الجدار. فهي تقف على حدود الخارج بشمسه وهوائه وتقلّباته وحياته، وتشرف
على الدّاخل بعتمته ونقص هوائه، لولا الضّوء العابر من عينيها، ولولا ما تجود به
من الهواء العابر بها... وتطلّ على رتابة المكان، وتفاصيل حياته البطيئة الهادئة.
لا ألقي
للنّافذة بالا في الغالب، ربّما لأنّها موجود ضروريّ جعلته العادة من الموجودات
العادية الّتي لا تلتقطها حواسّي بلهفة وانتباه، وربّما لأنّها أصغر من أن أعطيها
اهتمامي، أو ربّما لأنّها أعلى من إدراك بصري وما يهمّني هو أثرها في المكان. وإلى
وقت قريب كنت أفضّل الاهتمام بالباب وأنا أسند ظهري إلى جدار النّافذة فأرتاح من
صخب نفسي ورأسي وفوضى أيّامي وطول لياليّ الّتي يسودها نوم متقطّع.
وذات يوم،
مرّت عاصفة بالخارج كادت تقتلع النّافذة من مكانها، وهطلت أمطار غزيرة ضربت
النافذة بسياط مائها ولم ترحل إلاّ وقد غشي بصر النافذة قذى وانطفأت بهرة الضوء من
عينيها أو كادت.
وكما تبدأ
كلّ حكايات العشق منذ الأزمان الغابرة، نظرت إلى النافذة أعلى الجدار، وتعلّق بها
نظري، ثم أسرعت لأصعد على كرسيّ وضعته على طاولة لأصل إلى عينيها الذّابلتين وفي
يديّ ما أمكن من موادّ التنظيف ووسائله. وطفقت أنظّفهما وأجتهد لإزالة ما وقع
فيهما من الأذى. واجتهدت في ذلك فأعدت البريق إلى الزجاج المؤطَّر. وابتسمت. فنظرت
إليّ وشعاع الشّمس الباهت خارجها ينفذ من خلالها شديد الإشراق. وطاف بالمكان وأشعّ
في كلّ التفاصيل حولي. وصار المشهد كلّه تحت الضّوء وكم كنت أحتاج إلى بهرة الضّوء
هذه لأرسل روحي خارج المكان مثل عصفور منطلق لا تعطّله قضبان القفص.
وقعت في عشق
النّافذة الصغيرة العالية. فرتّبت مكاني قبالتها وصرت أجلس يوميّا في مكاني الجديد
أسند ظهري على الجدار المقابل لها وأتمتّع بما ترسله إليّ من إشراق الشّمس أو من
ظلمة اللّيل. وحبوتها بتنظيف دائم لتظلّ الابتسامة رفيقتنا وعيناها تراقبان يومي
وما أفعله تحت طائلة ناظريها. بل، أنا، كنت أراقبها وأراقب قطعة السّماء التي
تهرّبها عيناها إليّ.
...
وهيبة قويّة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
التّعليق يظهر بعد مراجعته. شكرا