8 يوليو 2011

نقوش على صفحة الشّاطئ


 غاصت أقدامها على الرّمل تخطّ مسارا عشوائيّا. واقتربت من الشاطئ ووقفت عند الموج. وبحماس طبعت صورة أقدامها على الرّمل في حركة صبيانيّة. ونظرت إلى الأثر. تأتيه الموجة تلو الموجة فيـمّحي ويبتلع الماءُ الرّسم ويغوص في لجّ البحر أو يذهب زبدا على صفحة الموج الثّائر.
ظلّت تفكّر في الرّمل، إنّه عميق، يبتلع كلّ الحكايات الّتي ترسمها عليه ويحتفظ بها بعيدا عن عيون المتطفّلين.
"يا لك من رمل! ليتني أُغرِقُ فيك ما فيّ من الألم وتُخفيه بعيدا."
أليس هو الرّمل الّذي يحمل خطى أقدامها وثقل جسدها على حباته الناعمة، وهي لا تملك القوّة لتحمل ثقله على رقّة ملمسه؟
أليس هو نفسه الّذي يُصنع منه الزجاج فيُكسَر، وتُبنَى به البيوت فتشتدّ وتقوى وتحمي ساكنها؟
أليس هو نفس الرمل الّذي ينساب كالماء من بين أصابعها فلا تمسكه وهو الّذي تبني به على الشواطئ قصور الأماني وقلاع الطفولة الحالمة؟
نعم، هو الرّمل، ترسم عليه أمانيها وتعانقه موجة حيرى فتمحو أثرها ورسمها ولكنّها تجدها عالقة بقلبها تطاردها في أحلام اليقظة.
هو مثل مشاعرها. تعرفها ولا تصفها، تفهمها ولا تستطيع إبلاغها، تستعذبها وتتعذّب بحملها. رقيقة، قاسية، حالمة، جافية.
هو الرمل، مرآة صقيلة ترسم عليها ملامح قلبها التي تريدها والتي تستطيعها فيضمّها الماء ويطهّرها ويغرق الأحزان المرسومة عليه فتضحك. لا شيء يبقى إلاّ ما كان له أثر عميق في نفسها، جراح وأفراح. ويبقى قلبها طاهرا نقيّا، هذا ما تعلّمته. فليأخذ الماء ما يريد وليطهّر قلبها، فكلّ أثر في نفسها عميق.
الماء! نعم هو الماء الّذي حمل رسم القلب لا الرمل. فلتجرّب الماء، إنّه أعمق من الرّمل. سيحمل كلّ الآلام إلى أعماقه. إنّه على الشّاطئ يتغلّب على الرّمل وما إن يوشوشه بموجه حتّى ينقاد له ويغرق فيه. حسمت أمرها، ورسمت قلبها على صفحة الماء فاهتزّ الماء وتبعثر وتلاطمت الأمواج. وحمل الماء كلّ ما في القلب وأغرقه. وعاد الموج من أعماق لجّته يصرخ على جسد الرمل بثورته ويحفر الذّاكرة.
وألقى الموج بعد ذلك رسما سقط على الحبات الناعمة، وحفر الصورة نفسها الّتي رسمتها على الماء. ثمّ تقدّم الموج يستلّ الصّورة من الرّمل حتّى أذابها وهي ذاهلة. تنظر إلى الماء تارة، وإلى الرمل تارة أخرى فتجد كلا الصفحتين صافيتين لا تحملان أثرا لخدش فيهما. رغم ذلك استقرّ رأيها أنّ صفحة الماء أفضل لتطهّر سماء قلبها من غيوم تعكّر صفوها.
كم يوجد حولها من الجمال تغمض عنه أحيانا عينيها ثمّ ها هي تراه جليّا ساحرا في لحظة تأمّل تصفو فيها النّفس لتدرك المدى الأسمى لكلّ الوجود. فقط عليها أن تغمض عينيها وتطهّر نفسها من أدران الحياة تكتبها حكاية على صفحة الموج الثّائر أو رمل الحكاية.


نُشِرَ النّصّ في مجلّة عود الندّ العدد 61 وهذا الرابط الأصليّ للنصّ.



7 يوليو 2011

كبُرتُ أمّي...




تتقدّم بها سنوات العمر وتتقدّم بي ولكنّي لا أكبر،وإنّما يكبر ما بالقلب من الحبّ لها.

آه! كم أحتاج أن أكبر بين يديكِ حتّى يتّسع صدري لكلّ ما فيه من الحبّ لك أمّي! كم أشعر بقصر قامتي أمامك، وبصغر حجمي! أتضاءل وأكاد أتلاشى كلّما غمرتِني بحبّك، وكلّما جلست إلى جوارك نتلو الحاضر والماضي والأحداث وتعاقب السّنوات على عُمرَيْنا... وكم أودّ لو تمتدّ إليّ ذراعاك لتعيدني إلى حضنك أشمّ عطرك وتعود إليّ أحلامي أخطّها صورا على فضاءات الخيال دون خجل من عمري وسنوات يعاندني مرورها وأنا البعيدة القريبة.
...جلست إلى جانبها في حديث عن الأيّام الّتي تفصلنا في كلّ غياب وتبعثنا في كلّ حضور.. تحدّثنا عن الأبناء وعن الإخوة.. عن الغائبين في بلاد الهجرة، وعن صعوبة العيش في هذا الزمان.. تحدّثنا عن أبي رحمه الله، عن سعة قلبه الّذي احتمينا به وعن فرحه وغضبه..عن مزاجه وطبعه...وترحّمنا عليه، وضحكنا... وأخذَنا الحديث بعيدا، فتحدّثنا عن الدراسة وعن السّهر بين دفّات الكتب... وعن نتائج امتحاناتي عندما كنت طالبة.

قالت بكلّ هدوء: "مع كلّ نتيجة امتحان أَلِدُكِ من جديد".
 صَمَتَتْ. ونظرتُ إليها فأردفت بنفس الهدوء: "ولدتك مرّات كثيرة. وكم دعوت لكِ وأنا أراك تنتظرين حصاد ما كنتِ تزرعينه في سماء اللّيالي الباردة!"
آه أمّي! كنت أبحث عن طريقة أجزيك بها عن ولادة واحدة؟ فكيف لي أن أجزيك عن كلّ هذه الولادات؟

غيّرتُ موضوع الحديث هربا من ثقلٍ ترزح تحته خفقاتُ قلبي. لا أذكر الموضوع الّذي تحدّثنا فيه لكن سمعت ابنتي إلى جانبي تقول لي: "أمّك تحسن الحديث في السياسة وأَعلَمُ منكِ بوضع البلاد والعباد".
نعم.. أمّي تتابع الأخبار في كلّ العالم، تعرف جغرافيّته ، وتعرف أحوال الطقس في أكثر بلدانه،
و تراقب أحوال البلدان في جزء من أروبا وآسيا وتحمد الله أنّها ليست مضطرّة إلى معرفة أحوال أمريكا ظالمة الخَلق المنتهكة للحرمات وغير الحافظة للحريّة وللإسلام... تحلّل بنفسها الوضع السّياسيّ وحتّى الاقتصاديّ وتتساءل إذا كانت الثّورة ستؤثّر في ثمن بطاقات السّفر وتخاف أن تُحرم الأمّهات من عودة أبنائهنّ من بلاد الغربة وأن يطول انتظارهنّ..." مساكين! ألا يكفيهم الغربة حتّى تستعر النار في سعر ركوب الطّائرة؟... هل تظنّين أنّ السفر بحرا أفضل؟"

فاجأني السّؤال، قلت: "هو أبطأ". قالت: "الانتظار قاتلٌ وعليّ التعوّد على هذا الظّرف الجديد. أعاد الله علينا الغائبين وحفظهم وسلّمهم حيث هم. المهمّ أن يكونوا بخير وستمرّ هذه الأيّام ويعود الخير إلى البلاد ونفرح جميعا بالعودة إلى الأهل".

تحدّثنا بعدها عن الياسمين وعن الآس وعن الفلّ وعن السوسن وعن كلّ الورود... واستفاقت الذّكرى تقودني إلى صفو الصّبا وإلى يديْ أبي رحمه الله تضع في كفّيّ حفنة من الفلّ لأوصلها إلى أمّي ويوصيني بها خيرا.

 أمّي تحبّ الورد كثيرا وغرفتها تعبق برائحة الورود البيضاء، وليس صدفة أن يستعيرالفلّ والآس والياسمين صفاء بياضه من روح أمّي؟...

والدي يحبّ الآس.  أمّي تسقيه في مواعيد محدّدة وفي الصّيف يُبعِدُ أبي تعبه بعد عمل يوم شاقّ بِقطفِ زهره وتوزيعه على البنات: "لكلّ أميرة من أميراتي زهرة آس في مثل بياضها". كنّا نشتمّها ونعيدها إليه تنازلا منّا عن طيب خاطر لنستمتع ونحن نراه يجمعها في باقة يقدّمها إلى أمّي.

ـ "هذا عقد البنات. حفظهنّ الله"...
في حين كانت هذه المشاهد تثقب اللّحظات مع أمّي وتكمل هيأة الصّورة كما في الماضي، كان الحاضر يثبت وجوده بحضور أمّي المميّز. كنت أنا فقط الحاضرة في المكان معها ولكنّ الحديث أعاد جمع لؤلؤات العقد المتناثر بالحديث والاستحضار وكأنّ أمّي تتعمّد إعادة النّظم...سبع من البنات جمعتهنّ في سلك رفيع من بديع حديثها وجميل دعائها: "أنتنّ أفضل البنات، وأحبّكنّ دون تمييز... وهذا قلبي اسأليه إن كنت أخيّر واحدة عن الأخرى". ولأتفادى الكلام عن قلبها قلت:
ـ "وأنت واسطة العقد ...رحم الله أبي. وحفظ إخوتي جميعا، فهم أيضا نجوم نستضيء بها".


وأخذت يدها أقبّلها. هي لا تحبّ أن نقبّل يدها ولا رأسها.لا أدري لمَ ترفض. قرّبت كفّها أقبّلها وأشمّها، فانبعثت من راحتها عطور الياسمين و الفلّ والآس. لم أكن أتخيّل. قرّبت راحتها من ابنتي وطلبت منها أن تميّز الرّائحة فقالت : "هي رائحة الفلّ و الياسمين". وكيف لا تتعطّر كفّاها وهي الّتي تتعطّر الأرض بعطر قدميها!

قلت لابنتي أمازحها:" أمّي أفضل من أمّك، فأمّك تحبّ الورود بأنواعها ولكنّ راحتيْ أمّي قواريرُ تختبئ فيها كلّ العطور ... هي أفضل وردة".
وصادقت ابنتي على كلامي. وقبّلت جدّتها تتعطّر بعبق راحتيها وجبينها...

تَوَاصُلٌ روحيّ جميل بين الحفيدة والجدّة، تلاه دعاء بمزيد النّجاح في دراستها.

"أرجوك أمّي لا تتحدّثي عن الدّراسة، لا أحتمل وزر عطاياك".








وأنت المرايا تلمّ زوايا العطور وغير الزّوايا ***مظفّر النوّاب*** وأنت المرايا تلمّ زوايا العطور وغير الزّوايا ***مظفّر النوّاب*** وأنت المرايا تلمّ زوايا العطور وغير الزّوايا ***مظفّر النوّاب***
زاوية دافئة من القلب *** مدوّنة خاصّة *** وهيبة قويّة *** الكتابة عصير تجربة ولحظة صدق تحرّرنا من قيود تسكن داخلنا، نحرّرها، فنتنفّس. ***وهيبة قويّة

الأكثر مشاهدة هذا الشهر

مرحبا بزائر زوايانا

free counters