15 سبتمبر 2024

ذاكرة الوجع، مقطع من: أنا بخير

الوجع النّسيان، الوجع البركان والنّيران، الوجع أكوام تحطّ على كتفيّ، على ظهري، على كلّ مفاصلي... أحاول ألّا أعير الوجع اهتماما ولكنّه يلاحقني ويعكّر صفو حياتي.

فالدّيك حين لا يجد نملا ينقره ينقر حنجرتي فأفقد صوتي، أو ينقر ذاكرتي فيُحدث فيها ثقوبا حتّى أنّ بعض الأفكار صارت ممزّقة وأشلاء لا يفهمها أحد حين أذكرها. إذ تصير الجمل غير تامّة والكلام لا ينتهي إلى معنى يفهمه مَن حولي. ولاحظ أولادي ذلك وصاروا يمازحونني:

«قولي جملة مفيدة لنساعدك... يبدو أنّك ستفقدين ذاكرة الكلام، مسكينة أنت يا أمّي. أولادك لا يفهمونك فكيف سيفهمك التلاميذ؟»

التّلاميذ؟! عرفت الآن لماذا لا يشاركون في الدّرس ويفضّلون أن أكتبه على السبّورة وينقلون دون أدنى مجهود. وفهمت لماذا أعيدُ الجمل مرّات، وأغيّر الأنشطة مرّات ومرّات ولا أجد لهم اجتهادا أو عملا، ولماذا أسأل ولا أجد جوابا. وفهمت خاصّة لماذا لا ينجز التّلاميذ أعمالهم ويأتون مكرهين إلى الدّرس يجرّون أرجلهم تحت وطأة وزن الكتب على ظهورهم، أو يأتون خِفافا حين تعوّض الكرة الكتب والكراريس في المحفظة.

سأعذرهم بعد أن فهمت حالتي. فما ذنبهم وهم لا يفهمون نصف ما أقول أو أكثر، وينسون الكتابة والقراءة، وينسون حتّى حروف أسمائهم. طبعا أقصد عددا منهم لا كلّهم، فعدد آخر من التّلاميذ يفهمون ويعملون ويحاولون التّفوّق. ووجودهم سيعينني على معرفة ما ذاب من ذاكرتي.

أعذرهم خاصّة حين صرت لا أراهم إذا نظرت إليهم.

نعم أحيانا لا أراهم. فالرؤية مَلَكَة مثل الكلام. ومن ينسى نصف الكلام يمكن ألّا يرى نصف ما ينظر إليه أو كلّه.

في المرّة الأولى ظننت أنّني أحلم، فبعد كتابة جملة على السبّورة التفتّ لأطلب من أحد التّلاميذ القراءة فلم أجد أحدا. قلت في نفسي:

«كيف يخرجون دفعة واحدة دون إحداث فوضى؟ هذا ليس من عاداتهم! وهل دقّ جرس الخروج ولم أسمعه؟ ربّما، فقد لا نسمع نصف الأصوات أو كلّها.»

بقيت أنظر في الفراغ لا أدرك ما حصل، أتساءل كم استغرقتُ من الوقت لكتابة الجملة؟ هل صرت بطيئة الحركة في الكتابة على السبّورة إلى درجة أن أكتب جملة واحدة في كلّ هذه المدّة؟ هذا ممكن ولكن هل خرج التّلاميذ وأخذوا معهم مقاعدهم؟

طال استغرابي أمام الفراغ، ثمّ بدأت بعض الأجسام تظهر شيئا فشيئا كابتسامة القطّ في بلاد العجائب. وأخذت أصوات كثيرة تتدافع إلى سمعي. لم أكن أحلم... ولم أفهم ما حصل، فهل يوجد عمى التّلاميذ كما عمى الألوان؟!

في مرّة أخرى، رأيت أجساما بلا رؤوس وواصلت العمل كأنّني أراهم في كامل صورهم بلا نقصان ولا زيادة. لم أكن أريد أن يعرفوا ما يحدث لي حتّى لا يختلّ سير الدّرس مع أنّه اختلّ لأنّني خلطت أسماء التّلاميذ، إذ كنت أشير إلى واحد منهم وأسمّيه باسم تلميذ آخر إذ نسيت نصف نبرات أصواتهم. وتكرّر الأمر مرّات ولم أجد له تفسيرا سوى أنّهم يفرّون من الدّرس الّذي يَثقُل على وقتهم وفهمهم وأنّهم يختبئون بفعل طاقية إخفاء. وكم تساءلت كيف حصلوا عليها! وتمنّيت لو أملك مثلها لأختفي بدوري حين يشتدّ وجع مفاصلي وحين تتكهرب يدي وأنا أكتب وحين ينبعث التّنّين في دمي وفي حالات أخرى لا أريد ذكرها.

وهيبة قويّة

مقطع من: أنا بخير

9 يونيو 2024

كيف نقلّل عدد الحمقى من حولنا؟ قراءة في كتاب: محاط بالحمقى، الأنماط الأربعة للسلوك البشري/ توماس إريكسون

محاط بالحمقى/ توماس إريكسون

كيف نقلّل عدد الحمقى من حولنا؟

يعيش الإنسان في مختلف فترات حياته مع أشخاص مختلفين عنه في أشياء كثيرة وحتّى في إبداء الرّأي حول نفس المسألة. وهذا الاختلاف ينتج أساسا عن اختلاف سلوك البشر وشخصيّاتهم والّتي تتحدّد بنظرتهم إلى العالم من حولهم وبكثير من العوامل الحياتيّة والوراثيّة المؤثّرة. وكم احتجنا في معاملاتنا اليوميّة إلى فهم سلوك الآخرين وفهم شخصيّتهم لنتفاهم معهم وتتقارب وجهات النّظر تيسيرا للتعايش بيننا.

يسهّل فهم شخصيّة الإنسان الّذي نتعامل معه التّواصل بيننا ويجعلنا نحسن اختيار العمل والعاملين معنا ومن يعيشون معنا وحولنا ونكتسب خبرة لتحديد شركائنا في الحياة عامّة فنحقّق أفضل السّبل للتّعايش السّويّ، السّليم والسّلميّ.

ولكن كيف نفهم شخصيّتهم؟

وهل نحن قادرون فعلا من خلال معرفة نمط شخصيّة الآخر أن نصل إلى التّواصل الجيّد معه والتّوافق الميسّر للتّعايش الأفضل؟

على كلّ حال إذا حاولنا فهم أنماط شخصيّات من حولنا فإنّ ذلك أفضل لربح الوقت لإنجاز أشغالنا وحتّى لا نحكم على غيرنا بالغباء وبأنّهم لا يفهموننا في حين أنّنا، فقط، لا نعرفهم، وقد لا نقِلّ عنهم غباء.

إنّ الهدف من تأليف توماس إيريكسون[1] لكتاب "محاط بالحمقى"يتجلّى في قول كاتبه: «أحبّ أوّلاً أن يعرف النّاس أن الاختلاف هو طبيعة بشريّة، وقد اخترت عنوان كتابي "محاط بالحمقى" انطلاقا من العبارة الشّائعة على ألسنة كثير من الناس، الّذين يقولون: «إنّ جميع من حولي لا يفهمونني». والهدف من الكتاب هو مساعدة القرّاء على فهم أنفسهم والآخرين بشكل أفضل، وتحسين علاقاتهم وتواصلهم مع مختلف الشخصيات.»

واعتمد صاحب كتاب "محاط بالحمقى" نظريّة نشرت في 1920 تحدّد أنماط الشّخصيّات البشريّة المختلفة وفق منظومة تلخّصها الحروف  DISA وفيها يختزل كلّ حرف المميّزات العامّة لكلّ نمط من أنماط الشّخصيّة البشريّة وهي باختصار:

     الهيمنة

I التأثير  
الخضوع
القدرة التّحليليّة

هذا باختصار شديد ما يميّز كلّ نمط بحسب النّظريّة الّتي اعتمدها توماس إيريكسون، لأنّ كلّ نمط ستتفرّع ملامحه العامّة بمزيد من الدّقّة في الكتاب. إذ أسند الكاتب لكلّ نمط من هذه الشّخصيّات لونا ليسهّل على القرّاء فهم المصطلحات الصّعبة الّتي يفرضها العلم لدراسة أنماط الشّخصيّات والسّلوك البشريّ، وقد أخذت كلّ شخصيّة من لونها المسند إليها نصيبا وافرا من معناه ورمزيّته وأيضا من تصوّرنا نحن عن اللّون.

*   أنماط الشّخصيّات:

حلّل الكاتب توماس إيريكسون كلّ شخصيّة معتمدا على الألوان التّالية ومميّزات كلّ شخصيّة بعد دراسة لسنوات طويلة لمجموعات بشريّة مختلفة فأفضت نتائج بحثه إلى:

1/ الشخصيّة الحمراء: هي شخصيّة تتميّز بالمزاج الحادّ، والطّموح والهيمنة، والتنافس.

2/ الشّخصية الصّفراء: هي شخصيّة متفائلة تتميّز بالثّقة، تحبّ الحديث، وشخصيّة تقدّم أجوبة عن أسئلة غير متوقّعة لذلك يراها البعض شخصيّة ثرثارة والبعض الآخر يراها شخصيّة مسلّية.

3/ الشّخصيّة الخضراء: يتميّز صاحبها بالهدوء والاتّزان والتّسامح، وهو مستمع جيّد لا يحبّ أن يكون في دائرة الضّوء ولا يخلق ضجّة حوله. وهي عامّة الشّخصيّة الوسط بين كلّ الشّخصيّات.

4/ الشّخصيّة الزّرقاء: يتميّز صاحبها بالواقعيّة والقدرة التّحليليّة للمسائل، مع ذلك هو لا يحبّ مشاركة أفكاره ما لم يطلب منهم، يهتمّ بالتّفاصيل وقد يؤدّي ذلك إلى إبطاء العمل.

واستخلص الكاتب في البحث أنّ لكلّ شخصيّة من الشّخصيّات الأربعة أسلوبها السّلوكي والنّفسيّ المختلف عن الآخر.

*   أنواع السّلوك للشّخصيّات الأربعة:

رغم تميّز كلّ شخصيّة بصفاتها الخاصّة تشترك هذه الشّخصيّات في بعض السّمات السّلوكيّة والنّفسيّة، ويمكن تصويرها كما يلي:

- الأزرق والأحمر يوليان الأهمّيّة الكبرى إلى المهامّ والمسائل الموكولة إليهما

- الأصفر والأخضر يميلان إلى التّركيز على الأشخاص والعلاقات

- الأزرق والأخضر: يتميّزان بالانطواء والتحفّظ

- الأحمر والأصفر: أصحاب شخصيّة مبادرة

هذه السّمات المشتركة يمكن أن تجعل الشّخصيّات أكثر انسجاما إذا كوّنت فريق عمل وفق المميّزات الخاصّة أو المشتركة، وتسهّل على أصحاب الشّركات اختيار فرق العمل المناسبة لكلّ مهمّة ربحا للوقت ولأجل جودة أكبر.

فالأزرق المتميّز بالطّابع التّحليلي يمكن أن يجتمع مع الأخضر الّذي يميل إلى الاستقرار والثّبات.

أمّا الأحمر المحبّ للتحكّم والسّيطرة فالأفضل أن يكوّن فريقا مع الأصفر المتفائل.

ومن النّادر أن نجد تكاملا بين الأخضر والأحمر أو الأصفر والأزرق بسبب تضادّ المميّزات الخاصّة لكلّ شخصيّة.

يعني أنّه يمكننا تصنيف الشّخصيات بحسب اهتماماتها ودواخلها النّفسيّة للوصول إلى أحسن سبل التّفاعل والتّواصل.

ويجب أن لا ننسى أنّ كلّ إنسان لا بدّ أنّه مزيج من بعض الألوان بحسب شخصيّته. فلا يكون لون الشّخصيّة واحدا بل قد يجمع بين لونين أو ثلاثة ألوان، كما أنّ كلّ شخصيّة تجتمع فيها السّلبيّات والإيجابيّات يجب أخذها بعين الاعتبار.

*   التّكيّف مع هذه الشّخصيّات:

من أهداف هذا الكتاب هو أن نتبيّن كيفيّة التكيّف مع هذه الشّخصيّات في الحياة العامّة وكيفيّة التّعامل معها سواء في العائلة أو في المدرسة أو في العمل.

  فلكلّ شخصيّة طريقتها في الحوار والتّعامل مع الآخر.

فالأحمر مثلا يحبّ التّحدّث بطريقة مباشرة دون أيّ لفّ أو دوران أو إطالة أو إسهاب في التّفاصيل، وهو أكثر تقبّلا للعمل والإنجاز وسهل التّواصل معه إذا كنّا لا نضيّع وقته ونأخذه مباشرة إلى النّقاط الرئيسيّة من الموضوع بطريقة واضحة وصوت رصين وأدلّة ملموسة ذلك أنّه يميل إلى المواجهة المباشرة.

أمّا في تعاملنا مع الشّخصية الصّفراء فيجيب أن نكون منفتحين وودّيين ومستعدّين للضّحك وتبادل النّكت، كما ينصح أن نزوّده بجدول أعمال بالنّقاط الرئيسيّة لأنّه غالبا غير منظّم وينسى بسرعة.

أمّا مع الأخضر، فيجب تجنّب تسليط الضّوء عليه بالإيجاب أو السّلب، إذ هو يحبّ الاستماع إلى تعليمات واضحة أكثر من أخذ المبادرة ولا يحبّ التّغيير، لذلك يجب أن تكون توجيهاتنا إليه مجموعة من الخطوات الصّغيرة الّتي يمكن اتّخاذها في عمل ما.

وأمّا صاحب الشّخصيّة الزّرقاء فباعتباره شخصيّة تحليليّة يجب الاستعداد الجيّد للاجتماع معه وتدوين أدقّ التّفاصيل، وللتأثير عليه يجب أن تكون معلوماتنا صحيحة ويجب أن نستعدّ لأسئلته الدّقيقة أثناء الحوار حتّى وإن لم يعجبنا ذلك أو رأينا أسئلته نوعا من الاستجواب البوليسيّ.

إذن لكلّ شخصيّة طريقتها في الحوار والتّعامل مع الآخرين، ولكلّ شخصيّة خصوصيّاتها الّتي إن فهمناها كان تعاملنا معها "أقلّ حمقا".

*   دور الشّخصيات في تكوين فرق العمل النّاجح:

لماذا يجب معرفة شخصيّة الأشخاص الّذين نتعامل معهم؟

الأكيد، حسب الكتاب، حتّى لا يحيط بنا الحمقى. لذلك مزج الألوان يجب أن يكون بدقّة ومهارة فنّيّة، قدر الإمكان، ليكون التّفاعل والانسجام. وأدّى جمع الألوان إلى النّتائج التّالية:

أكثر فرق العمل توازنا هو مزيج الأحمر مع الأزرق، أو الأخضر مع الأصفر.

فإذا جمعت الأزرق والأخضر في فريق واحد فالغالب أنّه سيحدث مشاكل في اتّخاذ القرارات إذ تكون مفصّلة أكثر من اللازم ممّا يبطء سير العمل. فالعمل وإن أنجز فهو بطيء جدّا.

وأمّا مزيج الأحمر والأصفر فإنّه سيجعلنا نواجه إضاعة الوقت في الحديث لأنّهما لونان يحبّان الحديث دون الاستماع إلى الطّرف الآخر، فمزيجهما يعطّل العمل وإنجازه، فلا عمل.

وأمّا مزيج الأحمر والأخضر فمن أصعب المزج، فالشّخصيّة الحمراء تصف الشخصيّة الخضراء بأنّها كثيرة الشكوى من عبء الأعمال، والشّخصيّة الخضراء ترى بأنّ الشّخصيّة الحمراء متعجرفة وعدوانيّة. فلا توافق ولا اتّفاق.

وأمّا المجموعة من مزيج الشّخصيّتين الزّرقاء والصّفراء فتعدّ مجموعة صعبة التّحدّيات فالشّخصيّة الزّرقاء تتميّز بالتّحليل الدّقيق لجميع التّفاصيل في حين تنغمس الشّخصيّة الصّفراء في العمل من غير تحليل أو تحضير.

هكذا يكون تمازج الشّخصيّات في العمل حسب توماس إريكسون. فنجاح العمل موكول إلى نجاح الجمع بين أصحاب الشّخصيّات المتوافقة.

وهكذا نكون محاطين بشخصيّات مختلفة عنّا وليس بالحمقى.

*   لغة الكتاب:

الكتاب بحث علميّ جادّ نتج عن دراسة لنماذج بشريّة كثيرة واطّلاع على نظريّات اشتغلت على أنماط الشّخصيّات والسّلوك البشريّ، وحتّى على فلسفة أبقراط الّذي اهتمّ بتنميط السّلوك البشريّ.

وجاء الكتاب في منهج متماسك وتبويب واضح لعناصر البحث، تساوى كلّ قسم مع الآخر في عدد الصّفحات وفي العناصر الّتي بحث فيها ونوّع مع كلّ لون وشخصيّة الأمثلة من النّماذج البشريّة الّتي درسها والّتي عاش معها أو كان في تواصل معها أو رافقها في التّدريب أو العمل. وهذا ما جعل الكتاب يسير القراءة، في لغة سهلة رغم الجدّيّة العلميّة الّتي اتّبعها الكاتب في البحث، وربّما يعود ذلك إلى أنّ توماس أريكسون حاول الكتابة الإبداعيّة أو امتلك هذه المهارة الّتي قال في الكتاب بأنّه مارسها لفترة وجدّ فيها مع أنّ بعض من عرفهم لم يميلوا إلى تشجيعه على المواصلة أو استحسنوا ما كتب.

أكّد الكاتب على صعوبة تمييز الشّخصيّات، وعلى اختلاف طبائع البشر وأنّهم ليسوا قوالب نمطيّة لنتمكّن في كلّ مرّة تمييز شخصيّتهم خاصّة وأنّ كلّ شخصيّة تحتمل امتزاج لونين أو ثلاثة ألوان. والواقع ليس كما البحث. ولكن يبقى هذا البحث وسيلة لفهم الآخر وفهم الذّات.

*   ولذلك يبقى السّؤال: أسئلة القراءة:

هل من السّهل فعلا فهم الشّخصيّات الّتي نتعامل معها؟

هل يجب أن نمضي وقتا طويلا لنفهمها كما فهمها الكاتب، وهذا عمله؟

هل يمكننا بممارسة ما جاء في الكتاب أن نحصل على الخبرة الكافية لنفهم شخصيّة غيرنا؟

أظنّ أنّ ما حلّله الكاتب قريب إلى علم "الفراسة" الّذي كان يعتمده أجدادنا حين كانوا يتبعون الأثر في الصّحراء أو يحلّلون الملامح، أو حين كانوا يتعاملون مع عدد محدود من البشر. خاصّة وأنّ الكاتب قد "تفرّس" في ملامح شخصيّات كثير من البشر لعقدين كاملين ليحوصل تجاربه في الكتاب.

لكلّ منّا قدراته الّتي تؤهّله لأن يعرف شخصيّة من يتواصل معهم ولكلّ منّا بصمته الشّخصيّة الّتي أظنّ أنّها قد تعطّل فهمنا للآخر في حياتنا بعيدا عن إدارة الأعمال والشّركات و"التّنمية البشريّة" الّتي يمارسها توماس إريكسون. فهذا صميم عمله ومجال خبرته الّذي قد نأخذ منه نصيبا يخوّل لنا فهم الآخر ولكن في حدود خبراتنا الذّاتيّة والخاصّة.

هل يمكن، بعد فهمنا لأنماط الشخصيّات وما ينجرّ عنها من سلوك، تغيير الّذي نتواصل معه ليفهمنا ونفهمه؟

لن نغيّره ولكن سنصل إلى أن نقلّل عدد الحمقى من حولنا، وهذا في ذاته إنجاز كبير. فتخيّل أن يتمكّن المدرّس من فهم شخصيّات تلاميذه كم سيقلّل من درجة الحمق والغباء! لكن ليت الأمر بهذه السّهولة!

وهيبة قويّة


[1]   توماس أريكسون خبير سلوك سويدي ومؤلف الكتاب الأكثر مبيعًا "مُحاط بالحمقى"، الذي تُرجم إلى أكثر من 40 لغةً، يسافر إريكسون في جميع أنحاء العالم لإلقاء المحاضرات والنّدوات للمسؤولين التّنفيذيّين والمديرين لأكبر الشرّكات العالميّة.

23 مايو 2024

اختلاس

اختلاس


 هل تعرف النوم الخلاسي؟

هو نوم لا علاقة له بالنّوم ولا باليقظة. هو أن تسهر نائما أو تنام ساهرا.

هو أن تختلس النّظر إلى الحلم مرّة، وإلى يقظتك مرّة. وألّا ترى حلما، ولا يقظة. وتظلّ كنوّاس ساعة حائطيّة كبيرة يتأرجح ويدقّ رأسك بصوته الرّتيب فتحاول الانشغال عنه بعدّ دقّات قلبك حتّى يصير نبضك ساعة حائطيّة بحجم قبضة اليد معلّقة بجدار ضلوعك... تنوس وتتمايل ويضيع اتّجاهك، فتدور حول نفسك، كدرويش نسي جسده معلّقا بين يديه المرفوعتين وهو يدور حول الفراغ مهلّلا، تشدّه الجهات وينفلت منها إلى حيث تصعد روحه أو لا تصعد.

خلاسيّ نومي. بلا حلم وبلا يقظة ولكن له صدى "تكتكة" يصدر عن رأسي الفارغ، مع أنّي حريصة على أن أملأه أفكارا وأحلاما ويقظة...

أراني نائمة بلا نوم، وصاحية بلا صحو... أراقب الفراغ بنصف عينيّ. كلّ الصّور أصابها غبش الرؤية، وكلّ الأحلام ضباب وفوضى. أحاول ترتيبها. أجمع أشتات الصّور وأبتني قصّة تناسب طول ليلي، وفوضاي، ورغباتي، تناسب اللّيل المستبدّ بروحي... وأكمل ما ينقص من الأحداث.

هذه اللّيلة اختلستُ حكاية من صديقي الطّيف وحلما قديما. وحرّكتهما عوضا عن نواس السّاعة في رأسي... وضجّ رأسي بما فيه.

تقول الحكاية أو يقول الحلم بأنّ طيفا حارسا سيزورني ليحرس منامي، لذلك نمت. ولكن لأراقب زيارته وحراسته اختلست نظرات إلى منامي...

وانتظرت...

أثناء انتظاري أخرجت الأفكار كلّها من رأسي، شطبتُ ما فيها من قديم مهترئ، عدّلتُ المعوجّ، أتممت الناقص، نفضت الغبار عن بعضها، أعدت بعضها إلى رفوفها البعيدة في لا وعيي، كتبت على بعضها عناوينها، مزّقت بعضها، رتّبت ما يصلح منها لغدي، استغنيت عن بعضها، نسيت أكثرها، احتفظت بما أعجبني منها...

استعدت وعيي، سمعت نبضي، أنّت عظامي، نزّت دموعي من تحت جفنيّ، استجمعت قوّتي، حاولت الحركة فخان رأسي توازنه وسقط يرزح بما فيه من ثقل، ناديت: يا نوم زرني ليزورني الطيف ويحرسني وأنسى ما يحتمل رأسي. من أثقال.

نومي خلاسيّ... أختلس خلاله اليقظة فيختلس منّي عمري...

وهيبة قويّة

29/29 جويلية 2022

20 مارس 2024

رمضان... زمان برامج إذاعيّة وتلفزيّة

رمضان...
حنين وذكريات

 

لي مع رمضان ذاكرة عميقة تمتدّ إلى طفولتي البعيدة توشّحها ذكريات برامجي المفضّلة الّتي تابعتها بحبّ وأحنّ إليها إلى اليوم.

أستعدّ كلّ عام لرمضان فأرتّب كثيرا من تفاصيله لينشر رائحة العبادة والقداسة حولي وحول عائلتي، وأرتّب أيضا حنيني إلى برامج كنت لا أخلف مواعيدها.

فترافقني الإذاعة نهارا في موعد ثابت، وأرافق البرامج التلفزيّة بعد الإفطار. هذه عادات ورثتها من عائلتي منذ الطفولة وأكاد لا أتخلّى عنها، أو فعلت. فقد تغيّر الوقت وتغيّرت البرامج.

يركض بي الحنين في أوّل يوم من الشّهر المعظّم بخطوات الطّفلة الّتي تحاول تقليد الكبار والمساعدة في إعداد الإفطار، وهي تلاحق بسمعها برنامجا هو من ثوابت الإذاعة الرمضانيّة منذ 1963 إلى اليوم هو برنامج "تحيّة الغروب" لكروان الإذاعة التونسيّة "عادل يوسف" لحقته في أواسط السبعينات ويرافقني إلى اليوم بعنوان "رمضان ملء قلوبنا" ومع أصوات مختلفة لم تُبعِد صوت حنجرة رمضان الذّهبيّة عن ذاكرة سمعي. وأشدو لرمضان مع البرنامج: "رمضان ملء قلوبنا يا ربّنا يا ربّنا..." وأدخل عالمي المقدّس مع منوّعة أسمع فيها النقشبندي والأذكار وأسماء الله الحسنى، وأستأنس فيها بتفاسير الآيات والأحاديث، وقد كنت لا أفهمها، ولكن إعاداتها جعلتها قريبة من قلبي وفهمي. فأسمع محاضرات عميد الأدب العربي طه حسين الّتي ألقاها في تونس، كما أسمع محاضرات فضيلة الشيخ محمّد الفاضل بن عاشور، وأستمتع بمحاضرات المؤرّخ فرحات الدّشراوي ومحاضرات الأديب الكبير محمود المسعدي. هي صفحات قليلة سريعة خفيفة على القلب يتكرّر بعضها في كلّ رمضان فتمتعني وتحيي ذلك الفضول الّذي كان في طفولتي.

تتخلّل فقرات البرنامج أغنيات دينيّة وأدعية بأصوات عربيّة عرفتها في صغري صوتا قبل أن أرى وجوهها إضافة إلى الأصوات التونسيّة المتميّزة. فتراني أسكت لأسمع أو أردّد بيني وبين نفسي "آمين" على دعاء الدّعين أو أنشد مع المنشدين وأغنّي مع فايدة كامل: "إلاهي ليس لي إلاّك عونا فكن عوني على هذا الزمان"... وحفظت أدعية بصوت عبد الحليم، وشدوت مع ياسمين الخيّام كما غنّيت مع صباح: "وإن قلت يا خويا الأكل كثير، وبلاش بعزقة وبلاش تبذير، يصرخ ويقول يا خواتي صايم..." ومع شريفة فاضل"بدري لسّة بدري والأيّام بتجري يا شهر الصّيام"... وبين كلّ هذه الفقرات أعمال إذاعيّة تونسيّة لفرقة التمثيل الإذاعيّ، هي مسلسلات كانت تبثّ إذاعيّا وتلفزيّا في بثّ مشترك أو من إنتاج الإذاعة منذ تأسيسها في 1938 توارثناها ونحنّ إليها دائما وهي قيّمة لما فيها من مواضيع اجتماعيّة وأخلاقيّة مثل مسلسل "الحاج كلوف" أو "شناب" أو " برق الليل" أو "حكايات عبد العزيز العروي" وغيرها... وتحرص الإذاعة على بثّ مسلسلات جديدة كلّ رمضان تجد مساحتها في برنامجنا اليوميّ الرّمضانيّ وتتنوّع ما بين التاريخيّ والهزليّ والاجتماعيّ.

وأظلّ كلّ يوم على هذه الحالة المتقلّبة بين الثقافة والترفيه والوعظ والإرشاد والدّعاء والتسبيح حتّى تبدأ فقرة تلاوة الذّكر الحكيم الّتي يختار لها البرنامج أفضل الأصوات مثل عليّ البرّاق وعبد الباسط عبد الصمد وعلي الحصري والمنشاوي والطّبلاوي فيزداد اليوم بهاءً ويطمئنّ قلبي، ثمّ يرتفع صوت المؤذّن يَأذن بـ "لمّة" العائلة حول الإفطار لتبدأ رحلتي مع البرامج التلفزيّة للمساء والسّهرة.

في الحقيقة لم تكن البرامج الرمضانيّة المرئيّة تبثّ بعد الإفطار فحسب بل كانت تبثّ نهارا حين صارت مساحة البثّ التلفزيّ أوسع، وخاصّة في أواخر السّبعينات وبداية الثمانينات، ومع حلول رمضان في الصّيف بثّت علينا تلفزتنا التونسيّة سنة ثمانين أو واحد وثمانين، مسلسل "صيام صيام" مع يحيى الفخراني. كان يُبثّ ظهرا ويحمينا من قيظ الصّيف ومن العطش.

لهذا المسلسل أثر في نفسي. كنت أتابع يحيى الفخراني بشغف وذاكرتي تحتفظ بصورة فردوس عبد الحميد وبراءة وجه آثار الحكيم والأهمّ الدّروس القيّمة الّتي تشجّع على الصّيام وتظهر قيمته وتفسّر سلوك الصّائم وضوابط الصّوم في تصوّر أعجب الطّفلة الّتي كنتها خاصّة وأنّ الحلقات كانت تشفع بتعاليق الكبار في العائلة وتفسير بعض مظاهر السّلوك في المسلسل. فأحببت كلّ أبطاله ولم أشاهده منذ ذلك الوقت ولكنّي أدندن في رمضان في أذن أولادي: «ده صيام صيام مش امتناع عن الطّعام» وأحدّثهم عن مواقف شاهدتها في الحلقات ودعّمها العمر.  

يبقى المسلسل نموذجا من الأعمال المؤثّرة في النّفس والعابر للأجيال. وكم نحتاج إلى مثله اليوم لتربية الجيل الجديد.

كانت تلفزتنا التّونسيّة تبثّ علينا تقريبا أكثر الأعمال المصريّة الرّمضانيّة حينها. فتابعنا مسلسلات تاريخيّة دينيّة مازالت محفورة في الذّاكرة وفتحت في القلب طريقا إلى محبّة شخصيّات لها أثر في تاريخنا الإسلاميّ مثل " محمّد رسول الله" و"عمر بن عبد العزيز" و"موسى بن نصير" وغيرها كثير لم تبخل به شاشتنا بالأبيض والأسود أو بالألوان فتابعنا عبد الله غيث وأشرف عبد الغفور ونور الشّريف وغيرهم في أفضل أعمالهم التاريخيّة والدّراميّة، وشدّت عيوننا إلى المساحات الزجاجيّة الملوّنة تتابع بشغف رأفت الهجّان وليالي الحلميّة وحياة الجوهري والمال والبنون.... وأعمال كثيرة ترافق السّهر بعد صلاة التراويح وتجمع العائلة حول حكايات وأحداث تصير حديث الجميع إذا ما انتهت. ومع ذلك كنت في طفولتي، وعلى الرّغم من كثرة المسلسلات، أستاء من عدم بثّ شريط ليلة الأربعاء بالأبيض والأسود مع أبطال السينما المصريّة والّذي كان يميّز شاشتنا التونسيّة منذ عرفنا التلفزة في أواخر الستينات.

ازدانت سهراتنا الرّمضانيّة أيضا بألوان الفوازير مع نلّلي وسمير غانم وفؤاد المهندس وشريهان... وتَباريتُ مع بنات العائلة لمعرفة حلّ الفوازير وحلمنا أيضا أن نكون بطلات في الرّقص والغناء ونشارك في الفوازير وكبرت أحلامنا ونحن صغيرات لتتلاشى حين كبرنا ولكن لم يتلاش الشّغف الّذي به نتابع حلقات من ذاكرة التّلفزة تعيد علينا بعض اللّقطات المتفرّقة من فوازير السنوات الماضية وتذكّرنا ببعض الأعمال.

تغيّر وجه تلفزتنا بتغيّر البرامج ولا أنكر تنوّع برامج الشّهر الكريم في كلّ سنة ولكن ظلّت ذاكرتي القديمة مسيطرة على ذوقي ووقتي. ومازلت مع كلّ رمضان أفتح صندوق الذّكرى وأختار برامجي الّتي تابعتها منذ أعوام بعيدة وسكنت روحي وذاكرتي. فأقيس الماضي الثّابت في ذكرياتي بالحاضر الّذي أتابعه بلهفة أقلّ طغت عليها مشاغل الحياة.

 

رمضان كريم

ودام الشّهر المبارك ذكرا لله وذاكرة تجمعنا بأحبابنا وأنفسنا كلّما حملنا الحنين وحلّ بيننا.

وهيبة قويّة
شاركت بهذه الذّكريات (صوتا) في:
صوت العرب: برنامج "بيانولاّ" مع مي عبد الدّايم
رمضان 2021

 

12 مايو 2023

فيبروميالجيا... وهيبة قويّة

... صرت أنام مستيقظة. أو ربّما أنام بنصف وعي، أو أدّعي النوم، أو أدّعي الصّحو. لا أدري كيف أفسّر هذا. فأنا أضع رأسي على الوسادة وأنا متعبة. وأنوي النّوم نيّة حسنة لا ريب في صدقها. ولكنّي أظلّ أتقلّب أبحث عن راحة لكتفيّ، أو ظهري، أو عنقي، أو مرفقيّ، أو ركبتيّ، أو كعبيّ مع أنّي لا أمشي ممدّدة... ويستولي على رأسي وأذنيّ صوت آلاف الصّافرات ويشتدّ. أعطش فأشرب. ويثقل الهواء فأبحث عن أنفاس قليلة تنقذني من الاختناق. أغلق جفنيّ وأبحث في رفوف الآلام عن حلم، أيّ حلم، وأجري وراءه والصّافرات في رأسي تفتح طريق الهرب أمامي وتلازمني، وأظلّ ألاحق صورة حلم فيختفي في أزقّة الأرق. وتتألّم عظامي وترجّني الصّافرات. وتصير صافرات قطارات تسير في رأسي ويعلو صوتها أكثر، وأشدّ على عينيّ أغلقهما فتنفتحان، وأبحث عن أنفاس قليلة وأختنق. أختنق، أتوجّع، أختنق، لا أنام... أحاول النّوم وأختنق، ولا أنام، وأتعب... ألهث وراء حلم، لا أحلم، لا أنام، وتدقّ نواقيس السّاعات لاهثة... الثالثة، الرابعة... أعطش، أشرب... السّادسة... وجع بعيني وعظامي وصداع عنيف يقسمني نصفين ويشتّت تركيزي ويبتلع ذاكرتي، والعمل يناديني وأتردّد. أخرج أم ألاحق نعاسا بدأ سعيه إلى عينيّ يثقلهما... يأتي الصّباح في القطارات الّتي برأسي وأنا أرتشف الوجع والنّار والتّعب. أحاول ترتيب ملامحي. فلا أفلح. وأبحث عن ابتسامة تفتح الباب لأرتمي في حضن الصّباح وأتدرّب على المشي بعيدا عن أكوام التّعب الّتي تلاحقني بكلّ التّعب. فيشدّني الفراش يضمّ أوجاعي ويئنّ معي في انتظار الفرج...




وأنت المرايا تلمّ زوايا العطور وغير الزّوايا ***مظفّر النوّاب*** وأنت المرايا تلمّ زوايا العطور وغير الزّوايا ***مظفّر النوّاب*** وأنت المرايا تلمّ زوايا العطور وغير الزّوايا ***مظفّر النوّاب***
زاوية دافئة من القلب *** مدوّنة خاصّة *** وهيبة قويّة *** الكتابة عصير تجربة ولحظة صدق تحرّرنا من قيود تسكن داخلنا، نحرّرها، فنتنفّس. ***وهيبة قويّة

الأكثر مشاهدة هذا الشهر

مرحبا بزائر زوايانا

free counters