إذا لم تدخل متاهة
بعد،
فاقرأ دمية كوكوشكا
لأفونسو كروش.
هل جربت أن تدخل متاهة؟
هل تظنّ أنّك قادر على دخول متاهة
والخروج منها سالما؟
هل فكّرت يوما أن تلتقي ببعض الناس، أو
تلتقي بي ولو على سبيل الافتراض «في اللانهاية، مثلما تفعل الخطوط المستقيمة
المتوازية»؟
يمكنك أن تجرب الإحساس بالضياع في عالمك
أو أن تخرج من القفص الّذي في داخلك حين تغامر بقراءة رواية "دمية
كوكوشكا" للروائيّ البرتغاليّ أفونسو كروش، وسترى كيف تخرج من المتاهة بتجربة
حياة فيها الفلسفة ممزوجة بالسذاجة، والواقع بالخيال، والحقيقة بالأسطورة، والفنّ
بالفوضى أو بالعدم، والأديان بالإلحاد، والحرب بالحبّ، والقنابل بالموسيقى، وعالم
الرواية بالرسم، والسرقات الأدبية بالبحث عن الشهرة بأسماء كتّاب آخرين...
ستَعُدُّ فصول روايتك بالآلاف حتّى تصل
إلى فصل اللاّنهاية، وتقفز في الرواية على أحداث عشرات الفصول لا تكتبها، أو ربّما
ألف فصل لم تكتبه، ولكنّك تظلّ ممسكا بزمام الرّواية وتجد لها المنطق المناسب
لتكملها دون خلل في مبناها أو معناها...
وستقف أمام باب الغرفة الأخير، «باب
الشارع»، «الوحيد الباقي لنا كي نفتحه في شقتنا.»
وستتأكّد أنّ «رؤية العالم لا تقتصر على
ما نراه فحسب... إنّها أيضا الشيء الّذي نتخيله»، وأنّه «لا يوجد أيّ شيء أكثر
كمالا من الأدب.» لأنّ حياتنا تحاكي الفنّ كما في عنوان أحد الفصول الأخيرة من
الكتاب.
هذه الفصول الكثيرة القصيرة ذات العناوين
الطويلة الّتي تجعلك تسأل في كلّ مرّة تقلب فيها الصفحة: إلى أين سيأخذني هذا
الكاتب المجنون؟ أو: كيف سيخرجني من هذه المتاهة؟ أو: إلى أين يسحبني بكلّ هذه
الخيوط المتشابكة؟ أو ربّما تصيح بالكاتب: ارحل أيّها المجنون واتركني أضيع.
وقد تفكّر بترك الكتاب ولكنّه يلتصق
بيديك وعينيك ويسحب وعيك ولا وعيك وخيالك ويشدّك لتكمل كلّ حرف فيه ثمّ تعيد قراءة
جمل بعينها وأنت تضحك لحروف الأبجدية كلّها وربّما ترتّلها في صلاتك مثل "إسحاق
درسنر" وتقول آمين لأنّك لا تعرف كيف ترتّب الحروف في كلمات تقول ما تريد
الصلاة به بين يدي الله. وستبتسم أيضا لكلّ الناس وأنت تسند إليهم الأسماء وفق
السلّم الموسيقيّ.
وقد تعيد النظر في الحرب الثانية وتقرأ
ملامح الإنسان الذي خلّفته فتوافق الكاتب أو تختلف معه لأنّ الحرب تغيّر الرجال: «لم
يعد رجلا، كان حطاما آخر من حطام العالم، كبقايا طعام. داخل عينيه يُرى جيّدا فراغ
مفتوح فيه قنابل.» وقد تسرح مع معزوفة "الدموع" لـــ"جانغو
رينهارت" ثمّ تعيد النظر في ظلالك اليوم... نعم، اليوم، الآن وهنا، ثمّ تفكّر
في كلّ ما حدث ويحدث وما سيحدث لأنّ الزمان له أكثر من بُعد في اللّحظة الواحدة
التي يمرّ بها...
وقد تنسى الزمان وتصير "بيغماليون"
وتصنع دميتك بكلّ تفاصيل حبيبتك وتجاعيدها أيضا ثمّ تبعث في هيكلها صلاتك وفراشات
الروح، أو تحطّمها لأنّك تريد الحياة بلا أقفاص، ولأنّك ببغاء أو كناري أصيل ولا تزيّف
ألوان ريشك لتصير شبيها بأيّ طائر آخر... لأنّك حرّ، ولأنّك فتحت أبواب القفص
بداخلك، ولأنّك فتحت باب الشارع الأخير في بيتك، ولأنّ مرضك له اسم، ولأنّ صلاتك
على قدر نيّتك وثقتك بالله، ولأنّك تعرف أنّ الله لا "يلعب السكرابل"
ويعرف صلاتك وفراشة روحك وخطاياك وصلاحك وألوان لوحاتك وطلاسم "لوحك"...
لأنّك ببساطة إنسان بسيط وحرّ.
قد تنهي الكتاب بحكمة تعلّمتَها وأنت
تدور في متاهاته، وقد تخرج بملامح عالم جديد بأبعاد ثلاثية ورباعية وخماسية وأنت
تتهجّى أبجديّات عالم غرائبيّ... وقد تخرج وذهنك خال من كلّ حدث وأنت تبحث عن
ذاتك، ولكن ستخرج حتما من المتاهة برأس جديد لأنّ «رؤسنا عالم من الأشباح ولا توجد
جراحة عصبية للمخّ يمكن أن تُجرى للخرافات. عليهم أن يبدّلوا طاولة العمليات بلوح
الويجا، لوح الروح.» وستفرح حتما لأنّك خرجت من القفص الّذي بداخلك وصار ظلّك
عصفورا.
وستفرح أيضا لأنّك ستواصل المسير في
متاهة الحياة وأنت لا تملك أن تصنّف الكتاب ضمن الروايات ولا ضمن الفلسفات ولا ضمن
بعض نظريات الرياضيات والفيزياء، لأنّها كلّ ذلك معا. وستنهي الكتاب وفي ذهنك كلّ
الألوان والأشكال والموسيقى والقصّ الغرائبي لتعيد رسم عالم نجا من الحرب ومن «الأربعة
آلاف طنّ من القنابل الّتي سقطت على درسدن خلال الحرب العالميّة الثانية.» ولم يبقَ
منها سوى ظلالها السوداء، وتفاصيل مشتّتة. سترسم هذا العالم ولكنّك حتما لن تزيّف
ألوان العصافير ولن تسرق رواية "توماس مان" ولن ترتّل للإله صلاتك
المشتتة ليرتب حروفها بنفسه لأنّك لم تعد ساذجا، ولست مجرّد أشلاء ممزّقة، ولأنّك
لست فيلا في دكّان من زجاج، ولا رجلا برأس به ثلاث نقاط مسترسلة، ولا كائنا ورقيّا
تخدعه ظلاله، ولا صوتا تحت الأرض مختبئا يملي أسعار البضائع على الآذان الملتصقة
بالأرض... ولست مجازا ولا فصلا منفصلا في رواية مؤلّفة من حروف سكرابل أو
"باتشوورك" Patchwork تجمّع قطع نسيجه خيوطُ اللّغة في نسيج عجائبي، وفي رواية
مضمَّنة تقفز على فصولها في رواية مفكّكة تحاول تجميع أجزائها وفرض منطقها...
أحببت متاهة أوفونسو كروش الروائيّ
الرسام الذي يفكّر برأس الرسام ليكتب بألوان روائية مختلفة فتضع السؤال المناسب عن
روحك وتتأكّد أنّها بوزن فراشة ليس أكثر، فتطلقها نحو النور لتحترق بنار المعرفة
وتصير شعلة حياة. بل تصير كائنا ضمن لوحة تشكيليّة تطردك من مساحتها وتجعل منك
المسمار الذي يشدّها إلى الجدار حتّى تراها مكتملة لأنّه «لا يوجد أيّ شيء أكثر
كمالا من الأدب» وتحديدا الأدب الذي يفرّ شكلا ومضمونا إلى لوحة رسّام وإلى موسيقى
الروح وإلى "لوح الويجا" ليُجري بنفسه عمليّة جراحيّة على الأشباح في
الخرافات الّتي في رأسك حتّى ترى العالم كما تتخيّله أو كما يفترض أن يكون.
أخرج من المتاهة، متاهة "دمية
كوكوشكا" مبتسمة وقد ارتسمت أمامي بعض علامات الطّريق.
وهيبة قويّة، جانفي 2023
الكتاب:
دمية كوكوشكا
المؤلّف:
أفونسو كروش، من البرتغال
تاريخ
النشر: 2018
الناشر:
مسكيلياني للنشر والتوزيع
عدد
الصفحات: 306 صفحة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
التّعليق يظهر بعد مراجعته. شكرا