صورة لخبز العالية تخبزه النساء وينضج في الفرن التقليدي |
خبز أمّي ينتخب
أمّي تشتهي خبزها اليوميّ البسيط. وظلّت من خلف
عقدها التّاسع تنتظر صواع سميد افتقده البيت. كم حرّكت يديها المتعبتين تعجن بهما
الهواء وتخبز رغيفها المشتهى! وكم انتخبت من المروج الخصبة السّاكنة في صندوق
ذاكرتها، بعنايتها وحكمتها، لتزرع فيها حَبّها المبارك! وكم حرست حقول القمح حتّى
استقامت سيقان السّنابل الخضراء! وكم عدّت الأيّام لترى السّنابل وقد انحنت ذهبيّة
ممتلئة حين قبّلتها شمس الصّيف! وكم حدّثت نفسها بتذوّق خبزها يأتيها ساخنا من
الفرن التّقليديّ وقد فاح بروائح الحطب الّذي أنضجه وروائح أخرى لا يعرف سرّها سواها!
أمّي ماهرة في الخَبز. تأخذ صواع السّميد وتكيل ما
يحتاجه طعام أهل البيت وتضعه في قصعة العجين. تضيف الخميرة الّتي خبّأتها بعناية
فائقة لطقوس خُبزها اليوميّ. تخلط الدّقيق بحفنة من حبّ السّمسم و"حبّ
الحلاوة" وحبوب أخرى تجعل خبزها يتفوّق بنكهته ورائحته على كلّ الخبز في بيوت
الجيران. تعجن كلّ ذلك بحُبّ وتعركه حتّى يلين فتسوّيه أرغفة تزيّن وجهها بخليط من
الزعفران وزيت الزّيتون. وحين يرتفع حجم العجين يكون موعد خروجه من البيت إلى
المخبزة التّقليديّة، ليدخل إلى الفرن العتيق المتوهّج بنيران تأكل الحطب وتتولّى
أمر نضج الخبر وإعلان استوائه بروائحه الطيّبة.
يصل طبق الخبز إلى البيت فتعطي أمّي رأيها في عمل
الفرّان ومدى إتقانه لعمله. فحسب رأيها هو المسؤول الوحيد على إنجاح عملها. تشمّ
الأرغفة واحدا واحدا، وتتلذّذ بما فاح من روائحها ثمّ تحفظها في مكان لا تصل إليه
يد الجوعى الّتي تمتدّ إليه دون تقدير لتعبها في صنعه فتعبث بوجهه وتفسد شكله قبل
موعد الطّعام.
مراسم الخَبز يوميّة. فالخُبز، حسب أمّي، يجب ألّا
ينقطع من البيت. فهو نعمة الله، وفيه بركة لا يعرفها أبناء اليوم الّذين اعتمدوا
على المخابز العصريّة ولم يستعملوا أيديهم لصنع خبزهم اليوميّ.
منذ أشهر تتفقّد أمّي كيس السّميد الفارغ. لا سميد.
ولا خميرة في البيت. والزّعفران مفقود أيضا. تنظر إلى يديها المتعبتين بنظرها
المتعب وتحدّث نفسها:
- مازلت
قادرة على الخَبز. وسأصنع خبزي بيديّ. ولكن...
زرتها منذ أيّام وتحدّثنا عن خبزها اليوميّ وعن
الفرن والفرّان وعن الخميرة والسّميد وبيادر القمح و"غسّالة النّوادر".
حينها بكت السّماء ملء الأرض وضجّت برقا ورعدا. فقالت أمّي:
- هذه أمطار بداية الخريف، جاءت تغسل بيادر القمح وتعلن بداية
العام. هذه "غسّالة النّوادر" كما شهدتها حين كنت يافعة... هي تنبئ بنعم
كثيرة. ستمتلئ البيوت خبزا وماءً.
بعد وقت لا أدري إن طال أو قصر، صدقت نبوءةُ أمّي،
نصفُها. امتلأت البيوت في كثير من المناطق ماءً وحملت سيوله خيرات كثيرة لا علم
لنا إلى أين. وأعلنت الأخبار أنّ الأمطار حملت قناطير من القمح معها. وأغلق
الخبّاز الفرن، فقد ابتلّ الحطب وتلف القمح وانقطعت الخميرة من البيوت. وعقّبت
أمّي:
- الله لا يقطع لنا
خميرة من الدّار.
أمّي شغلت نفسها بالدّعاء. وأنا تابعت الأخبار الّتي
فاضت بالآراء وأمطرتني بوابل من التّحاليل حول نتائج الانتخابات المتوقّعة. وتجنّد
جيش من المتكلّمين عن الماء والخبز... بعد تسع عجاف رعت ثورة الخبز والماء
الضّامنيْن لكرامة شعب نادى: "خبز وماء... والجبروت لا"
قالت أمّي وهي تواصل دعاءها:
- الماء والخبز رزق من عند الله ! يا ربّ ارزقني
صواع سميد لأصنع خبزي، وارزق الجميع لأجل خزينهم السّنويّ. فلا عام لنا بلا
"عولة".
العولة أيضا من طقوس أمّي الّتي تحتاج فيها إلى
السّميد. وهي طقوس صيفيّة سنويّة تخبّئ خلالها ما يحتاجه أهل البيت من طعام يعتمد
فيه السّميد أو دقيق القمح. وأمّي في ذلك مثل نملة نشيطة تخبّئ في الصّيف طعام
الشّتاء لها ولكلّ العائلة.
كفّت الأمطار وطوت السّماء سحبها وبرقها ورعدها
وركضت شمس الخريف في ساحاتها ليزهر الزّمان والمكان.
ابتسمت أمّي للسّماء وقالت:
- كلّ هذا الماء ولا نجد صواع سميد؟ حديث هؤلاء
المترشّحين يرشح ماء ولكنّه لا يملأ أوعية العولة. فقد تركوا القمح للسيول والتّلف
وحرمونا سميد الخبز والعولة. لن أنتخب فأنا أشتهي الخبز. والفرن أُغلقت أبوابه إذْ
كفّت سواعد النّساء عن صنع الخبز في بيوتهنّ لافتقاد السّميد.
أفهم جيّدا موقف أمّي. فهي لا تحبّ إلاّ ما تطبخه
يداها في بيتها. ولا أذكر أنّني رأيتها تأكل أكلا جاهزا من خارج البيت. لذلك لن
تقبل بغير خبزها.
قلت أهدّئ من روعها:
- لكلّ زمان عاداته وطقوسه. واليوم زمان الخبز
العصريّ والأكل في الشّارع...
قالت:
- الله لا يعطينا ما يغلبنا. وقد غلبونا. وأغرقونا بكلامهم وحبسوا عنّا نعمة الخبز. سيصيبهم غضب الله وغضب الفقراء.
انتهت أخبار الماء، وجاءت أخبار الانتخابات لتملأ
الفضاءات دهشة وكلاما ودقّت أجراس النّتائج. سألت أمّي من انتخبت فثارت في وجهي:
- الخبز
والماء...
في نفس اللّحظة وصلت نتيجة أوّليّة للانتخابات تعلن
فوز الخبز ورشح وِفاض المتكلّمين... فتكلّمت:
- أمّي !
هل تصدق هذه التّخمينات؟
- فقالت أمّي :
- تصدق. انْتَخَبَ
الخبزُ فرّانه والبطون راعيها...
نصّ من كتاب: على ضفاف الضّوء، وهيبة قويّة
عن دار عود الندّ للنّشر/ لندن
صورة للفرن التقليدي الأندلسي بالعالية، ببطحاء الجامع العتيق |
الفرن التقليدي بالعالية، ببطحاء الجامع العتيق |